قالوا من زمان: «إن كلام الأولين حديث الآخرين» فإذا عدنا إلى التراث سنجد أن (الحرية) قد شغلت الناس أو قل: شغلت بالفعل فريقاً من كبار المفكرين والفلاسفة.. ولكن بأي معنى؟ كان المعتزلة أهم من أثاروا البحث في حرية الإنسان ,بحيث حرصوا على أن يجعلوا الإنسان قادراً خلاقاً لأفعاله خيرها وشرها على السواء ليكون مسئولاً عما يفعل مسئولية تبرر ثوابه أو عقابه يوم الحساب. وأما (النظامية) وهم اتباع ابراهيم بن سبأ النظام , فقد زادوا على القول بقدرة الإنسان على اختياره لأفعاله خيرها وشرها وكان من قول ابراهيم النظام (إن حرية الإنسان في فعله محدودة بقدرته وأما ماجاوز قدرته فهو من فعل الله تعالى).. وهناك جماعة تُعرف بجماعة (الجهمية) عارضت المعتزلة في قولهم:«تجربة الإنسان في خلقه لأفعاله أن الإنسان عند (الجهمية) نسبه إلى (جهم بن صفوان) لايقدر على شيء ولا يوصف بالاستطاعة ,وإنما هو مجبر في أفعاله لاقدرة له ولا إرادة.. ولا اختيار وإنما يخلق الله تعالى الأفعال فيه: على غرار مايخلق في سائر الخلائق جمعاء.. أما إذا اتينا إلى أحد مفكرينا العرب.. الدكتور زكي نجيب محمود - كاتب مرموق وهو مفكر مصري معروف قال عن الحرية ومطلب الحرية (لايكفي أن أجد على صفحات التراث كلمة (الحرية) مذكورة لأصرخ في وجه القائلين):«أن الحرية مطلب يشغل عصرنا ساخراً بهم وزاعماً أنهم يستيقظون الآن لما دعونا إليه منذ أكثر من قرن من الزمان , المقصود بالكلمة شيئ واحد في الحالتين لعجبنا بدورنا أشد العجب من هؤلاء المعاصرين الحمقى , الذين يجعلون من فكرة الحرية مداراً لجزء كبير جداً من نشاطهم سواءً كان ذلك في مجال الفكر الفلسفي أو في مجال الفكر السياسي والاجتماعي وحسبنا أن نعرف أن المطابع تخرج مئات الكتب عاماً بعد عام ليس فيها إلا غوص في فكرة الحرية بألفاظ منمقة لا بأفعال جديرة بالعمل» هذا مارآه الدكتور زكي نجيب محمود قبل رحيله بسنوات لكننا اليوم مانشاهده ونحن في عصر العلم والعمل أنكد النكد.. فمن نكد هذا الزمان أننا بلينا بالزنابير الفضائية المنتشرة في كل افق من آفاق كوكب الأرض المعمور والمهجور من ثقافة الحرية الحقيقية الفعالة.. فقد تضاءلت بسببها ثقافة الحرية المطلوبة والإنسانية الحقة وتغلبت ثقافة الجنس وبيولوجيا الأخلاق. أي حرية هذه التي تبثها زنابير القنوات المهترئة؟. وآخر قول الدكتور زكي:«أفيجوز بعد هذا كله أن يسمع سامع عن العصر الراهن أنه منشغل بفكرية الحرية الإنسانية وتجلياتها وتحديدها».. ويقول صاحبنا بصريح العبارة:«إما أن نعيش عصرنا بفكره ومشكلاته ,وإما أن نرفضه ونلتفت إلى الخلف ونوصد الأبواب لنعيش الماضي».. فالذين يلتفتون إلى الماضي لايمكن أن يحققوا شيئاً لأجيال المستقبل.