يمدنا القرآن بقصة ملهمة من بطن التاريخ، عن معنى القلة والكثرة (قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث) فالجماهير المحتشدة المتحمسة للقتال تحت قيادة جالوت تبخر معظمها بمجرد أن عرفوا أن من سيقودهم إلى ساحة القتال ليس ممن يملكون الأموال السائلة والسندات المالية، وعندما تحركت النخبة انبطح معظمهم أمام الاختبار الأول عندما صادفوا أول نهر فأقبلوا يشربون المياه بنهم، وأخيراً مع قلة القلة لم يصمد أمام كثرة (طالوت) إلا قلة قلة القلة أي نفس قانون 1 % الذي جاء في الحديث عن معادن الناس والإبل (تجدون الناس كمعادن الذهب والفضة إنما الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة). واعتبر الفيلسوف البريطاني (برتراند راسل) أن كل الثورة التنويرية في الغرب دشنها مالا يزيد عن مائة دماغ، وأنه لو تم قتل واغتيال وتصفية هذه الأدمغة لما كانت نهضة ولا تقدم. وعندما درس الفلكي (مايكل هاردت) العقول المبدعة في التاريخ وجد أن عددهم الإجمالي في تاريخ الجنس البشري لا يتجاوز العشرين ألفاً، ولكنه وجد أن (مائة) فقط يحتلون رأس قائمة التغيير، بمن فيها المدمرون والعتاة من أمثال هتلر وجنكيزخان وستالين، فهم دخلوا التاريخ وخلدوا أنفسهم على كل حال. ولكنه على الرغم من كونه ينتسب ليس إلى عالم المسلمين فقد وضع النبي محمداً (صلى الله عليه وسلم) في رأس القائمة، فاعتبرهم أعظم الناجحين في التاريخ. ولم يكن الإسلام لينهض لولا جيل فريد تم تربيته وتدشين التغير التاريخي بواسطته، وليس غريباً أن يحزن الرسول (صلى الله عليه وسلم)على أصحابه الذين غدرت بهم القبائل العربية يومها، ففتكوا في إحدى حملات الغدر بسبعين من أصحابه؛ فبقي يدعو عليهم شهراً. السيرة تسميهم القراء وهم النخبة المثقفة الحركية في مصطلحاتنا حالياً، وشكلت معركة الحديقة مع المرتدين حجم الكارثة بعدد من قتل من حفظة القرآن، الطبقة القيادية المفكرة التي أقامت وحفظت المجتمع الإسلامي الوليد يومها، مما دعا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يحض أبا بكر لجمع القرآن، ولا يستبعد أن يكون هذا النزيف المتكرر للطبقة القيادية المفكرة التي عاشت لحظات بناء الإسلام خطوة خطوة، أحد الأسباب الجوهرية التي قادت إلى كارثة اختفاء الحياة الراشدية، ليتحول تاريخنا بعدها إلى مسلسل محموم من قنص السلطة بالسيف بين بيوت حاكمة لا تنتهي أسماءها.