في القرآن تعد أعظم متعة للمتأمل.. فقد صاغ العالم (برايس PRICE) العلاقة الرياضية في العبقرية فاكتشف تبسيطاً لها، بأن 50 % من الانجاز المحقق، ينتجه في العادة ليس الكل بنفس الوتيرة بل بعدد من العباقرة يتناسب مع الجذر التربيعي لهم، فلو كان هناك 250 موسيقياً أو عبقرياً، فإن نصف الانجاز سيقوم به جذر رقم 250 وهو 15,8 موسيقياً، وهو الشيء الذي أثبته الواقع فقد لوحظ في الاحصائيات العلمية لعدد الموسيقيين الذين لمعوا عبر العصور أن 16 موسيقياً بين مائتين وخمسين موسيقياً، هم الذين انتجوا نصف ذخائر الموسيقى الكلاسيكية الخالدة، بل إن ثلاثة منهم يتربعون على القمة هم: بيتهوفن وموزارت وباخ، أنتج كل واحد منهم منفردا 6 % من كامل الانتاج الاجمالي لقريب من 15 ألف لحن موسيقي كلاسيكي متميز. وصدقت هذه الدراسة على 696 موسيقياً و301 من العباقرة و2012 فيلسوفاً و38 رئيس جمهورية. ومن اللافت للنظر أن عالماً آخر هو باريتو (PARETO ,S LAW) استفاد من قانون لوتكا ليطبقه على الاقتصاد، فاكتشف أن هذه العلاقة تنطبق أيضاً على توزيع الثروة، باستثناء أن مخرج العلاقة (ن) ليس مرفوعة الى قوة 2 بل 1,5 مما جعل صاحب (كتاب العبقرية والابداع والقيادة GENIUS CREATIVITY AND LEADERSHIP) سايمنتون ( SIMONTON) يعلق على ذلك بقوله:(وبمقتضى هذا القانون فإن الحسابات المتراكمة الخاصة بالمكاسب التي يحققها الاشخاص تم تقديرها لدى أمم عديدة عبر فترة طويلة من الزمن، تميل الى أن توزيع الثروة يتسم بالالتواء بدرجة كبيرة، بحيث يسمح لنسبة صغيرة من الجمهور بأن تهيمن على قدر لايتناسب مع حجمها من القوة الاقتصادية. إن هناك تشاكلاً ( ISOMORPHISM ) مثيراً مابين الابداع الثقافي والقيادة الاقتصادية، لدرجة أنه يمكننا أن نقارن بين الهيمنة العقلية لشخص مثل آينشتاين والاحتكار المادي لشخص مثل روكفلر. وإذا كان المبدع الفرد يتميز عن القطيع البليد ضمن الزمن الواحد، فإن القلة المبدعة تضرب ضربتها الموفقة عبر التاريخ، فالقرآن مثلاً ينقل لنا أنموذجاً اجتماعياً من نوعية 1% ليس في مستوى الفرد، بل في مستوى الغربلة الجماعية. فعندما فصل طالوت بالجنود كانت الغربلة قد تمت سلفاً مع صيحات الهياج والحماس الفارغة، فقد طلب بنو اسرائيل من أحد أنبيائهم أن يرسل لهم ملكاً ليقاتلوا في سبيل الله، فلما وقع الخيار وبرز الملك طالوت سقط الأكثرية في الامتحان، وظهرت عمق النوايا في تمحلات لانهاية لها، من طلب الملك أن تكون خزائنه مكدسة بالمال كمبرر للانخراط في دخول المعركة معه، وهي تمثل نصف الحقيقة، وعندما تحرك الجنود الى أرض المعركة تساقطت مرة ثانية الأكثرية بمجرد التعرض للعطش عندما خالفوا الأوامر بعدم تناول كمية كبيرة من السوائل (الا من اغترف بيده غرفة) فانبطحت الجموع (تكرع من الماء) في خطأ بيولوجي جسيم مع مواجهة المعركة، فلما حصلت المواجهة الأخيرة زلزل الأكثرية وزاغت أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت، وتقصفت ركبهم هلعاً، عندما عرفوا أن الحرب جدّ وواقعة لامهرب منها. إذا كانت التصفية الأولى من ألف شخص قد طرحت خارجاً 900 شخص فإن التصفية الثانية أوصلت الرقم الى عشرة، وأبقت التصفية الثالثة من العشرة واحداً، فلم يبق لمواجهة زحوف جالوت وآلته الحربية المدرعة وجثمانه الضخم بطيء الحركة، الا مرقاع داوود وقلة باقية تعرف أن مفاتيح النصر تعطى في العادة الى قلة مرنة متفاهمة، تحسن الحركة والتعاون وعمل الفريق، ومهارة القصف، وحسن توجيه الضربة. وهذ الذي كان عندما هوى جالوت الى الأرض صريعاً بحجر صغير، بكل جبروته ودروعه وسيفه الضخم، أمام فتى صغير من نوع داوود خفيف الحركة حسن الضرب ماهر توجيه الطلقات. والمؤرخ البريطاني توينبي يفهم هذا القانون ضمن صعود الحضارات وانهياراتها، فهي تبدأ رحلتها بأقلية مبدعة تحسن قيادة القطيع، على أنغام مزمار شجي، تترسم فيه الأغلبية خطى الأقلية بآلية المحاكاة، وتنهار الحضارة مع إخفاق الطاقة الابداعية عند الأقلية المبدعة، التي تتحول في النهاية الى أقلية مسيطرة تسوق الأكثرية بالكرباج والرعب والاعتقالات. وترد الأغلبية على تحكم الأقلية بسحبها ولاءها والعدول عن محاكاتها وخذلانها في ساعات العسرة والمعارك المصيرية ونقطة الصفر، ويتلو ذلك ضياع الوحدة الاجتماعية في المجتمع في مجموعه، والانهيار الصاعق الكامل لكل مجموع الأمة. ولعل روح السلبية واللامبالاة والعجز الموجود في العالم العربي اليوم يفسر أو يعطي ظلاً عن بعض أسرار هذا القانون الاجتماعي . ومع الاقتراب أكثر فأكثر من فهم هذا الجانب العجيب في الانسان من التميز والعبقرية، فإن جانباً آخر يبرز ليدلل على جدلية الانسان بدون نهاية، فالفيزيائي ستيفن هوكينج عندما استعرض في نهاية كتابه (قصة قصير للزمان BRIEF HISTORY OF THE TIME ) سيرة العديد من العباقرة، مرَّ على سيرة نيوتن ممتعضاً عندما كان مسؤولاً في دار سك النقود؛ فتسبب في إرسال عدد من الناس الى حبل المشنقة، وهو السبب الذي جعل عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يعزل زياد بن أبي سفيان عن إمارة العراق عندما سأله عن السبب: أهو لعجز أم لخيانة كان جواب عمر عجيباً، ليس لهذا ولالذاك، بل لفرط ذكائك ؟! فالطيابة لاتجتمع في العادة مع فرط الذكاء ؟!. كما انتبه ابن خلدون الى ذلك بأن الرعية لايهمهما في الحاكم جمال صورته أو خطه البديع ولافرط ذكائه، ولايعني هذا أن يكون الحاكم بليداً غبياً، بل معتدل الذكاء حسن الفهم للرعية والرفق بهم، فمعاجلة الناس بالعقوبات تحرف أخلاق الناس الى الكذب والنفاق وخذلانه في ساعة الصفر. هناك دراسة نفسية في هذاالصدد تلقي الضوء على هذا الجانب من تفاعل الذكاء مع الحكمة: ( فالقسم الأول من الذكاء المتبلور هو محصلة معارف الانسان وخبراته، والثاني قدراته البعيدة على الخزن والاستخراج، أي قدرته على استرجاع خبراته الدفينة والافادة منها. ويرى البعض أن هذين المظهرين يشكلان مانطلق عليه اسم الحكمة، ولقد قام أحد تلامذة بياجييه وهو مايكل كومونز (MICHAEL COMMONS) بإجراء اختبار أخلاقي على متطوعين من جمعية مينسا (MENSA) وهي منظمة عالمية تضم الذين حققوا نقاطاً مرتفعة في حاصل ذكائهم والذين يصح أن يطلق عليهم اسم عباقرة لقياس نموهم الأخلاقي، وكانت النتيجة أن العباقرة أظهروا أداءً اخلاقياً منخفضاً، وقد أفضى به هذا الى قناعة مفادها أن الاعتقاد بأن العباقرة مؤهلون لحل مشكلات العالم هراء. وتفاعل الفهم مع الحكمة والانضباط الخلقي أو نشاط الضمير هو الذي وصفه القرآن عن العملية التربوية، أنه يعلم الأميين الكتاب والحكمة ويزكيهم. وأهم مافي دراسة ايريكسون الذي قصد فك وفهم آلية العبقرية من أجل تصنيعها، أن كل انسان منا فيه قدر مختبىء من العبقرية تحتاج الى صقل، وأخطر مايواجه الانسان هو الشعور باحتقار الذات، فقد يصل الانسان الى درجة فقدانه لمعنى وجوده الى مايشبه الانتحار وانتظار الموت، وهي حالة نفسية متفشية وليست قليلة أو نادرة، وقبل أيام روت لي سيدة عن موت قريب لها مات عن عمر الأربعين عاماً ونيف، كان مستلقياً على ظهره طول الوقت يقوم فقط للطعام، كأنه ينتظر الموت، الذي لم يخب ظنه فجاء. إن داخل كل منا عبقري ينتظر الإيقاظ. ومشكلة الإيقاظ هي الجهد الدؤوب المكثف والاهتمام البالغ، والمثابرة، وعشق المعرفة، والصبر، والطموح، ولكننا ندخل الدوامة من جديد فيولد سؤال جديد من رحم الإجابة السابقة: إذا كانت العبقرية وليدة الاهتمام والعمل الدؤوب والمثابرة والتراكم المعرفي من خلال بناء الحزم المعرفية فكيف نولد الاهتمام؟ أم كيف نبني أخلاقية العمل الدؤوب المتراكم عبر عقد من السنوات؟