بعدَ القرآن الكريم والسُنّةِ النبوية المُطَّهرة، لم يترك لنا الأقدمون شاردةً ولا واردةً إلاَّ وتناولوها سواءً في إطارِ حكمةٍ أو مَثَل كخُلاصةٍ لتجاربهم مع الحياة، كي نستفيدَ من تلك التجارب التي تنظّمُ عمليات التعاطي مع من حولنا، لكننا وفي ظل هذا الواقع المرير المليء بالمتعطشين للغوغائية والناقمين على الوطن وعلى أنفسهم، وأصحاب الأجندات الخاصة، لم نعدْ نرى سوى الطيش والجنون والتنظير في الإطار الضيّق والقفز على الواقع، والإصرار على الرأي الواحد ،، وكأنَّ على رؤوسهم الطير ،، حتى شعرة معاوية لم يعدْ لها وجودٌ في زمن المكايدات والمماحكات والأعصاب المنفلتة، فإمّا أن تُصنّف مع أو ضدَّ، حتى وإن كان لك رأيٌ مغايرٌ هنا أو هناك في هذه القضية أو تلك . أما ثالثة الأثافي فهي أنك كنت تعوّلُ على أناس لطالما رأيتهم يتشدقون بالوسطية ويعلنون إيمانهم بالرأي الآخر والحرية والديمقراطية، وهاهم اليوم يُناصبون كلَّ ذلك العداء، ويتنكرون لأشياء كانوا يجاهرون بها إلى قبل أشهر معدودة، فما الذي تغيَّرَ ؟؟ وهنا أُذكِّرُ أحدَ هؤلاء بمقابلة صحفية له وهو ينظر بالقول عقب ظهور فخامة رئيس الجمهورية بعد الحادث الإجرامي على مسجد دار الرئاسة : «إلى الآن لم نتأكد هل الذي ظهر هو الرئيس علي عبدالله صالح أم لا ؟ وهل الذي ضُرب هو مسجد دار الرئاسة أم مكان آخر ؟ »، بالله عليكم كيف يريد هؤلاء أن يحكمونا وهم بهذه العقليات وهذه المغالطة والاستخفاف بالعقول بأشياء لا يُصدّقها حتى المجانين ؟ لقد رمى السياسيون أو بالأصح غالبيتهم بالوسطية عرض الحائط دون أن يدركوا أنهم بهذا الأسلوب يريدون إعادتنا إلى زمن شريعة الغاب وهم يفرطون في كيل الاتهامات وتصنيف الناس بالطريقة التي تحلو لهم، إضافة إلى محاولة فرض آرائهم بطريقة ديكتاتورية لا تُعيرُ الرأيَ الآخر أيَّ اهتمام بل أنها ترى فيه عدواً يقفُ في طريق مشاريعها أياً كانت محدودية صوابية هذه المشاريع . وبالعودة إلى بداية الموضوع فطالما نردد مقولة : « الاختلاف لا يُفسدُ للودِّ قضيّة» فنلحظ أنّها هذه الأيام قد غُيّبتْ قسراً بسبب التنافر الحاد الطاغي على المشهد حيث أفسد الاختلافُ القائمُ ما تبقَّى من مودَّة بين فرقاء السياسة وأضحت لغة التهكّم والتهجّم والتخوين هي السائدة وكأن الأصوات التي تدعو للتروّي وتحكيم العقل تحرثُ في البحر، فلا تجدُ من يسمعها أو يقرأ لها، وإن وُجِدَ فلا يعير ذلك أيَّ اهتمام، وعندما يُفتشُ المرءُ بين خبايا هذه التكتلات والإفرازات المخيفة، يجد أن تراكمات التعبئة الخاطئة التي تنتهجها عددٌ من الأحزاب في تعاملها مع كوادرها هي السبب الرئيسي خلف حالة الاحتقان، لذلك لا تجد أي تقبّل لرأيك مهما كان صائباً، وهذا بالطبع يُثيرُ المخاوفَ من ضبابية الصورة المستقبلية للواقع السياسي في ظل هكذا عقلياتٍ لا تؤمن إلا بما عُبّئت به ولا ترى الصوابَ إلا فيما تلقته أو تم تلقينُها به.. وكلُّ ذلك يدعو للتساؤل : من المستفيدُ من توتير الأجواء وتلبيدها بالعوادم المسمومة ؟ وكيف لنا أن نتعايش مع بعضنا في وطنٍ واحدٍ والبعضُ ينظرُ للآخر بهذه الصورة المشينة ؟ لماذا يعمل هؤلاء على تكريس ثقافة الانتقام بدلاً من التسامح والتراحم والتآخي والمحبة ؟ وما الذي يدفعهم للوقيعة بين أبناء البيت الواحد تحت أي مسميات يرفضها الدين والقيم والعادات والأخلاق ؟ لماذا ينبري الكثيرون من زملاء الحرف للدفاع عن أناسٍ يُبشرون بديكتاتوريتهم جهاراً نهاراً ؟ وهل هذه هي الحرية التي يبحثون عنها , بينما اليوم لا يجرؤ أحدهم على ذكر المُبشرين بهذه الديكتاتورية ولا عن إحدى سلبياتهم ؟ ألا يدعو كل ذلك للخوف على المستقبل الذي يتقاذفه من يتحدثون عن الدولة المدنية الحديثة، وروائح كتاباتهم تزكم الأنوف من مناطقية وحزبية ومذهبية و .. و.. و.. وكذلك من يتحدثون عن خلافة إسلامية وهم يُجهزون مقاصلَ الانتقام من الآخرين دون أن يُعرِّجوا فقط على حادثة واحدة من حوادث التسامح الإسلامي، ولو تذكروا قصة نبينا الكريم عليه وعلى آله وصحبه الصلاة والسلام في فتح مكة عندما قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء لمن تبقى من قريش تحت الكفر بعد ما صنعوا به، لكفاهُم معرفةً بحقيقة ديننا الحنيف ؟، أتمنى أن نُحكّمَ عقولَنا ونعودَ جميعاً للاختلاف الذي لا يُفسدُ للودِّ قضيّة ،، وكفى الله المؤمنين شرَّ القتال .. [email protected]