كنت ومازلت أعجب من هؤلاء المحسوبين على الدولة من مثقفين وعلماء ومشائخ قبائل وصحافيين وأدباء ونقّاد وعسكر وموظفين ووزراء عندما افتقدناهم بين ساعة وضاعوا. كنا نريد أن نسمعهم أو نشاهدهم أو نقرأهم وهم يقولون كلمة حق أو باطل في هذا الطرف أو ذاك, ولكنهم ضاعوا ضيعة رجل واحد في وقت الشدة إلا بعض الأوفياء منهم. ولقد سأل معاوية رجلاً من خلصائه الأمويين عن علي بن أبي طالب, فقال له: إن علياً سبقك إلى الإسلام والحسنى وزيادة, والله لقد أبديت رأياً كنت أقصد به وجه عصبية, حين كانت تدعوني لكتم الحق ونصرتك وقت الشدة, أما الآن وقد أشرفتُ على ملاقاة ربي وأنا معك في خلوة فإني أعيذك أن تسمع من علي بهتاناً أو نفاقاً. فقال له معاوية: أحسنت، ولا حول ولا قوة إلا بالله.. وهكذا طبع الدنيا التي لا يؤمن جانبها. قلت في نفسي: هل أصبح الناس عبيد مصالح إلى هذا الحد من كفران النعمة والمنعم؟! إن أمر هذه الدنيا لعجيب, فالناس يطلقون الثناء ويسبّحون بحمد هذا أو ذاك من البشر مادام قادراً على العطاء, حتى إذا ما انصرفت عنه الدنيا ذهب هؤلاء. وأتذكّر بيتين من الشعر كان أستاذ البلاغة يضربهما مثلاً في باب الجناس التام يصلحان أن يكونا حكمة على مدار الأيام: رأيت الناس قد ذهبوا إلى من عنده ذهب ومن لا عنده ذهب رأيت الناس قد ذهبوا رأيت الناس منفضّة إلى من عنده فضة ومن لا عنده فضة رأيت الناس منفضّة ولهذا يقول الحديث الشريف: (تعس عبد الدينار, تعس عبد الدرهم). من الأزمات والمواقف العصيبة تظهر معادن الناس جبناً وشجاعة, وفاء وخيانة, والعدو الشهم لا يهينك, والصديق الصدوق لا يبيعك. ولعل السيرة النبوية في رمضان تذكّر المسلم بقيمة الوفاء ورد الجميل, ليسقط في السافلين منكرو المعروف.