عرفها قبل أن يراها، وكان يقرأ نصوصها البصرية الشاردة مع كائنات الخرافة السابحة في مدى الزمان والمكان. كانت تلك القراءات البصرية الأُولى تميمة فاضت بتفاصيل مرصودة وأُخرى غافية في رُكام الذاكرة، وبعد عقد أو عقدين كان له معها يوم غائم وغامض منذ الغسق الأول للراحل درويش. يوم أزلي يختزل دهور الثبات والتحول، ويشعُّ ببهاء زرقته وألوان ضيائه الساطع. في ذلك اليوم سافر مع جُوانيات عقله وقلبه، ففتح أسفاراً جديدة، وشاهد معالم لنصوص بصرية متجددة حد القلق الرصين، فكانت شواهد العمارة، واختزالات الأساطير والآماد، وحالات الشجو والحنين، وتفاصيل تنوء بأحمال روحية قريبة الانبثاق، وكتابات مُحايثة لمألوف الفنون المتواشجة مع زمن الإبداع ونواميسه . وخلال الاحتدامات، بل الازدحامات البصرية المموسقة بالرشاقة والرويّة كان يقرأ سفر عوالمها الداخلية أنواراً كتلك التي فاض بها القائل : سر السرائر مطويُّ بإثبات من جانب الأُفق من نور بطيّات تاه الخلائق في عمياء مُظلمة توقاً ولم يعرفوا غير الاشارات فكان سرها سريرتها، ومحوها إثباتها، ونورها نارها، ووجودها توهاناً في الخفاء وأخْفى، وعباراتها إشاراتها، وصوتها صمتها ... نعم ، فقد بدأت الآن ترتحل في أقاليم الصمت والحزن النبيل، وتزهد في العبارة بحثاً عما يتجاوز الكلام، وتتدرج في عوالم السالكين قهراً لعاديات الأيام وصروفها النافرة . إلى هنا وتميمة الإبداع تنبلج من ركام التجارب والخرائب، وحالة الفصوص النصيّة البصرية تخرج من تلك المناطق، فمن لا يقع في الظُلمة لا يبصر نفسه كما قال النفّري، ولا يولد الجنين البديع الحي الناصع إلا بعد أن يتمرغ في ظَلمات حياته الأولى. نعم .. وليس للسفينة أن تُبحر دون شروط الإبحار . «إن السفينة لا تجري على اليبس». [email protected]