الإنسان أولاً .. والإنسان ثانياً؛ لأنه مصدر كل ثروة.. وقوة كل دولة !! إن النظام البائد أهمل هذه الثروة الوطنية - كما ذكرت في مقال العدد الماضي - وسأقدم للقارئ العزيز في هذا العدد بعض المؤشرات التي تثبت إهمال النظام البائد لجانب الاستثمار في الإنسان و عدم الاهتمام بتأهيله وتعليمه وإعداده، وهاك – عزيزي القارئ - بعض الدلائل على ذلك:أولاً : الإنفاق الحكومي على التعليم الإلزامي!! بلغت نسبة الإنفاق الحكومي على التعليم بكافة مراحله التعليمية فقط (2 %) من إجمالي الدخل القومي للجمهورية، وكان ينفق النظام البائد على تعليم التلميذ في المرحلة الإلزامية من التعليم في المتوسط (80,000 ريال) ثمانين ألف ريال فقط في العام حسب أرقام موازنة عام (2008م) أي ما يعادل (400 $) أربعمائة دولار أمريكي فقط ، وهذا المبلغ حسب المعايير الاقتصادية بالكاد يكفي لشراء (برسيم) لحمار واحد لمدة عام، فكيف بتعليم وتأهيل وإعداد (بني آدم) عقل بشري ؟! وهذا الرقم على قدر ضآلته إلا أنه كان في حسابات النظام البائد مبلغاً ضخماً وعبئاً ثقيلاً وهماً وبيلاً... كما أن هذا الرقم إذا ما قورن بالأرقام التي تنفقها دول الخليج على تعليم تلاميذها يعد مبلغاً تافهاً لا يرتقي باليمن لأهلية الانضمام إلى عضوية مكتب التربية لدول الخليج العربي، فدولة الإمارات على سبيل المثال تنفق سنوياً في المتوسط على تعليم التلميذ في المرحلة الأساسية مبلغ (عشرين ألف درهم إماراتي) أي ما يعادل (خمسة آلاف وأربعمائة دولار أمريكي) وهذا الرقم - على رغم بساطته أيضاً حسب مقاييس التعليم - يماثل (14) ضعف ما كان ينفقه النظام اليمني البائد على تعليم مواطنيه. ثانياً: نسبة الالتحاق بالتعليم الإلزامي؟ تطبيقاً لمقولة خديوي مصر سعيد باشا: «أمةٌ جاهلة أسلس قيادة من أمة متعلمة» كان النظام البائد يغض طرفه عن تنامي نسب الأمية وتسرب الأطفال من الدراسة بأعداد كبيرة جداً، وعزوف الشباب عن التعليم، حيث من المفترض أن يلتحق بمرحلتي التعليم الأساسي والثانوي باليمن ما لا يقل عن (تسعة ملايين طالب وطالبة) حسب آخر تعداد سكاني، فيما تشير إحصاءات وزارة التربية والتعليم إلى انتظام (خمسة ملايين طالب وطالبة فقط)، أي أن هناك إهداراً لما يقارب من نصف الثروة البشرية في البلد أي ما نسبته (45 %)، وهذه كارثة لا تقل فداحة وجسامة عن إهدار الثروة المائية. كان النظام البائد يعلل عجزه عن استيعاب هذه الأعداد في التعليم بما يسميه (النمو السكاني) الذي يهدد حسب زعمه (بالانفجار السكاني)، رغم أن هذا السبب لم يمنع الحكومة الصينية من القيام بواجبها نحو مواطني الصين الذين يشكلون ربع سكان الكرة الأرضية، فقد نجحت الحكومة الصينية في تعميم التعليم الإلزامي لمدة تسع سنوات ل(ربع) سكان العالم باستخدام (%2) من إجمالي نفقات التعليم العام في العالم... وفي الصين أكبر مجموعة من المواطنين الذين يتلقون التعليم، ويتجاوز إجمالي الذين يتلقون التعليم (300 مليون طالب وطالبة).. والآن، بلغت نسبة الالتحاق بالمدارس الابتدائية في عموم الصين أكثر من (99 %) ووصلت نسبة الالتحاق بالمدارس الإعدادية والثانوية والتعليم العالي (%95) و (53 %) و (21 %) على التوالي؛ فيما تجازوت نسبة التغطية للتعليم الإلزامي لمدة تسع سنوات (95 %)، بينما انخفضت نسبة الأمية بين الشباب والكهول إلى ما يقل عن (4 %). ووصل التطور التعليمي في الصين إلى معدل مستوى الدول المتوسطة الدخل. ثالثاً : الاهتمام بالمعلم؟ كان النظام البائد لا يولي المعلم اهتماماً يتناسب مع الدور المناط به، وينعكس عدم الاهتمام بالمعلم في كافة السياسات المتعلقة بالمعلم إعداداً وتأهيلاً وتدريباً واختياراً وتعييناً وتوزيعاً وتحفيزاً. فعلى مستوى الإعداد والتأهيل فشلت سياسات الإعداد والتأهيل لمعلم الأجيال فشلاً ذريعاً، وأسهمت سياسات النظام البائد في هذا الجانب في خلق طابور طويل ممن يحملون صفة (المعلم) وهم ليسوا أهلاً لحمل رسالة الأنبياء، فلقد كانت وظيفة المعلم هي الملاذ الوحيد لإنصاف المتعلمين، ولكل من يتخرج من الثانوية العامة بتقدير ضعيف فهناك أكثر من (تسعين ألف معلم ومعلمة) بالجمهورية ممن يحملون الشهادة الثانوية فقط، كما كانت مهنة التعليم منذ منتصف الثمانينيات من القرن الماضي هي المحطة المهنية لكل متخرج من أية كلية من كليات الجامعة سواء كانت مرتبطة بالتربية أم لا، فخريجو كليات الشريعة والزراعة والآداب والعلوم والهندسة التحقوا بمهنة التعليم دون إعداد مسبق، ما أدى إلى مخرجات سيئة جداً أصبحت تشكل عبئاً ثقيلاً على الوطن. وعلى مستوى التدريب؛ وأقصد به تدريب المعلم أثناء الخدمة (أو ما يسمى بالتدريب على رأس العمل) وإن كان قد بدأ يتنامى بصورة بطيئة في السنوات الأخيرة بدعم وقروض خارجية إلا أنه كان يتم وفق معايير تدريبية وتربوية وتعليمة ركيكة، ويتخرج المعلم بعد التحاقه ببرامج التدريب دون استفادة عملية عندما يعود لممارسة مهنته كمعلم، كما أن هذه البرامج التدريبية (حسب تجربة الكاتب) كانت تخضع لمعايير حزبية وأهواء شخصية بعيداً عن التخطيط الاستراتيجي والتقييم اللاحق. وأما على مستوى الاختيار والتعيين والتوزيع، فإن الكاتب قد أجرى دراسة (ماجستير) أثبتت نتائجها أن سياسات اختيار وتعيين وتوزيع المعلمين بالجمهورية لا تتم وفق المعايير القانونية المقرة ولا وفق المعايير التربوية المتفق عليها عالمياً، بل تدخلت في هذه السياسات كافة المعايير غير المشروعة كالرشوة، والواسطة، والمحسوبية، والحزبية، والمناطقية، وغيرها مما ينعكس على مخرجات التعليم بشكل كبير . وأما على مستوى التحفيز، فيكفي أن نعرف أن المرتب الذي يتقاضاه المعلم لا يغطي نسبة (25 %) من احتياجاته الأساسية (الضرورية) فضلاً عن احتياجات التطوير الذاتي التي لا غنى عنها لأي معلم، ولايزال المعلمون اليمنيون يصارعون عبر نقاباتهم (المتعددة!) لانتزاع أبسط الحقوق التي تضمن لهم عيشاً كريماً، وإن مما يبسط للقارئ عملية المقارنة بين دخل المعلم اليمني ومثيله في إحدى دول الخليج التي انضمت بلادنا مؤخراً إلى مؤسستها التربوية،إن ما يتقاضاه معلم سعودي معار في اليمن يساوي ما يتقاضاه (عشرون معلماً) يمنياً. أخيراً : أذكر كل هذه المؤشرات والدلائل بين يدي حكومة الوفاق لا لوضع مزيد من الثقوب في وجه نظام اندثر بما له وما عليه وإنما لكي تضع الحكومات الجديدة للنظام الجديد في اليمن الجديد جل اهتمامها بتأهيل الإنسان والاستثمار فيه وتجاوز كل تلك المؤشرات السلبية التي استعرضتها في مقالتي والاستفادة من أخطاء الماضي وتلافيها عند بناء الحاضر والمستقبل ... والله من وراء القصد .. * أستاذ إدارة الأعمال المساعد