لم يكن يعلم محمد البوعزيزي أنه باستشهاده سوف يحرَّر أمة مكبلة منذ عقود، وسيشعل غضب المقهورين في أرجاء الوطن العربي ضد جلاديهم الذين بدأوا النزوح القسري إلى جبانة التاريخ منذ بداية العام 2011م، مخلّفين وراءهم مجتمعات على تخوم الفقر المدقع والجهل المركب والاستلاب الحضاري. تأكد للعالم كله أن العرب أمة تواقة إلى الكرامة والحرية، وأن المواطن العربي المتهم بالتخاذل الجيني من قبل الغرب؛ تحوّل إلى بركان من الغضب لم تستطع أعتى الفيالق العسكرية إيقافه أو كسر إرادته أو زحزحة قناعاته بالتحرر والانطلاق. خلال عشريات مضت جذَّر النظام العربي ثقافة الخنوع وسط الجماهير، وسعى إلى تمزيق النسيج الاجتماعي للأمة عبر التلاعب بالتنوع العرقي والثقافي، وابتزاز الشعب بورقة اسرائيل تارة والإرهاب تارة أخرى، كما عمد إلى مقايضة التنمية والحرية بالاستقرار الرخو. وكانت الشعوب تنتظر الانفراج على أيدي النخب السياسية والثقافية والتي نظَّرت كثيراً للحرية والتنمية دون أن ترتقي إلى خلخلة منظومة الفجور السياسي وتفكيك منطق الاستتباع. استيقظ العربي عشية معجزة ومأثرة البوعزيزي على تهافت كل النظريات والأدبيات التي روَّجت للتدرج في التغيير، وسوَّقت للمفاهيم التي تطيل عُمر الظلم، وأقنعت العربي أو حاولت بقدريته التاريخية المتعانقة مع التخلف، وأثبتت ثورة الجماهير شموخ العربي ورفضه الاستعمار الداخلي، مخترقاً اطمئنانه المفتعل وسكينته المزيفة. لم يعد العربي ذلك الخانع في نظر العالم وسريع الانقياد، بل أضحى مارداً يجرف الجلادين ويعاقب الأوصياء عليه، كاشفاً هشاشة الأنظمة العربية المنبطحة أمام الخارج والمتنمرة أمام الداخل المغلوب الذي ظل يراهن على يقظة ضمير مختطفيه دون جدوى. لقد تعرَّت الأنظمة العربية أمام الشعوب بفعل الإرادة المتفائلة حسب غرامشي ولأول مرة يدرك العربي أن قرار مصيره بيده، وأنه صانع الأمل والإحباط في نفس الوقت، وهو بهذه الثورات يضع حجر الأساس ومداميك المستقبل الواعد، مفتتحاً عصراً تتوج فيه المواطنة ويتسيَّد فيه العقل وتتعملق قيم الإبداع والمساواة، وتخنق فيه الزبائنية التي حكمنا بها الحكام العرب. ها هو العربي اليوم يفتخر بهويته، مباهياً بها العالم، متطلعاً إلى شراكة ندية مع سكان هذا الكوكب لإعادة صياغة كل التسويات والمعاهدات التي تحكم هذا الكون، مبدياً استعداده المطلق لاحترام قواعد اللعبة بعد أن كان مجرد بيدق في يد الآخرين!!.