عاشت كثير من مجتمعاتنا العربية من مشرق العالم العربي إلى مغربه خلال الأشهر الماضية وبدرجات متباينة، مرحلة تاريخية خطيرة من “الانتفاضات الشعبية” و“الأزمات السياسية” الناجمة غالباً عن اشتداد حدة الخلافات السياسية، وغياب توافق الآراء السياسية أو غياب الاتفاق المبدئي والأساسي على معظم القضايا المصيرية لأبناء المجتمع العربي الواحد، وغياب رؤية موحدة لدى كثيرين منهم على ما من شأنه إذابة طبقات الجليد المترسبة على أسطح العلاقات بين المواطن والنظام السياسي، من جهة، أو داخل مكونات النظام السياسي نفسه، من جهة أخرى. وقد تأثرت مواقف شتى الأطراف السياسية العربية الفاعلة والمؤثرة بمشاغل عديدة ذات طابعٍ سياسي وعقائدي، منبثقة من منطلقات ومداخل مختلفة ومتعددة، ومن حصاد لسنوات من الجفاء والعداوة والإقصاء، والشعور بالتهميش المتبادل المتعمّد بين أطراف المنظومة السياسية داخل المجتمع الواحد، بنسب وأساليب مختلفة من مجتمع إلى آخر. ومع كل هذا، فإن الواقع وتأمل تجارب الماضي يستوجب منا جميعاً، أفراداً وجماعات، أحزاباً سياسية ومنظمات مجتمع مدني، سلطة ومعارضة، أن نتحاشى التشبث بخلافاتنا قديمة كانت أو جديدة، وأن نتجنب اتباع الأساليب غير الديمقراطية في التعامل مع الآخرين، خاصة تلك التي تتخذ صورة المجابهات الإعلامية المتكررة والمنتظمة، وإطلاق التصريحات المغرضة التي تسيء إلى الوطن والمواطن، وتترك ندوباً وجراحات غائرة يصعب علاجها أو اندمالها، أو معالجة آثارها وثأراتها بين أبناء المجتمع الواحد. بل لعله يستوجب منا أيضاً تحاشي اتخاذ قرارات آنية قد تثير في نفوس بعض أبناء المجتمع مرارة عميقة، حتى وإن صدرت بأغلبية كبيرة، ذلك أن أكثر ما نحتاج إليه في الأوضاع الراهنة هو الاستعداد الدائم لممارسة الحوار، والانفتاح على الآخرين، والتسامح، والتعاون، وقبول الاختلاف والتعدد في وجهات النظر، وصولاً إلى تحقيق توافق الآراء السياسية الوطنية حول مجمل القضايا الوطنية والسياسية محل النقاش، مهما بدت غير قابلة للنقاش أو التفاوض. شخصياً كانت ومازالت لدي كثير من التحفظات والانتقادات على كثير مما حدث في مجتمعنا اليمني، وعلى المآل الذي وصلت إليه الأوضاع بعد فترة طويلة من المعاناة والمشاكل التي دخلت إلى كل منزل وبيت، وعلى المعالجات التي اتبعت في محاولة احتواء الآثار المترتبة عليها، مع أنها أبقت على آمالنا بقرب الفرج وانفراج “الأزمات”. كما أنني تحفظت على الكيفية التي تمت بها عملية تقاسم الحقائب الوزارية في حكومة الوفاق الوطني تنفيذاً للمبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية التي راعت الانتماء السياسي والحزبي أكثر من الكفاءة والمهنية وامتلاك القدرات على التخطيط وحل المشكلات.. وقبلها تبقى لدي شأن كثيرين غيري مخاوف من تكرار التجربة الفاشلة لحكومات التقاسم والشراكة السابقة، التي ضحّت بكثير من الكفاءات، وأفرغت كثيراً من مؤسسات الدولة ووزاراتها من الكوادر والطاقات لأسباب حزبية بحتة، والخوف أكبر أن تشكل مبادئ الولاء الشخصي والحزبية والمناطقية والقرابة معايير مستقبلية “معتمدة” لإقالة أو الإبقاء على هذا الموظف أو ذاك، وهذا الوزير أو ذاك، بدلاً من معايير الأداء، والتخصص والكفاءة والمهنية العالية والقدرة على الإنتاج والتخطيط المستقبلي والإدارة بالأهداف، وغيرها من المعايير التي تحقق المساواة في توزيع الفرص، وتكفل التنفيذ الحقيقي لقانون “التدوير الوظيفي”. لكنني، وبنفس القدر مازلت أتمنى، وربما أمنّى النفس ومعي كثيرون من أبناء هذا البلد الطيب، أن يمر مجتمعنا من هذه الأزمات والنكبات أو أياً كانت تسميتها، وأن يصبح بمنأى عن جميع الظروف العصيبة التي قد تعيق سبيله نحو تحقيق جميع الغايات السامية للمجتمع اليمني، وأن تتمكن حكومة الوفاق الوطني من معالجة جميع الاختلالات الأمنية، وأن تسعى إلى التخفيف من المعاناة اليومية لكثير من أبناء هذا المجتمع، وأن تبذل جهوداً مضاعفة في سبيل توفير الخدمات الضرورية مثل: النفط والديزل والماء والكهرباء ودبات الغاز التي بات توافرها حتى بأسعارها المرتفعة حلماً يغازل كثيرين من أبناء اليمن، بدلاً من الانشغال ببعض القضايا الهامشية والتغييرات الطفيفة هنا أو هناك، واستغلال السلطة في تأجيج صراعات متعددة أو ثنائية الحلقات، والتي لا يصح أن تصدر عن وزراء ينتمون إلى نفس الحكومة. نقول ذلك حتى لا نجد أنفسنا دائماً أمام فريقين متصارعين، لا فريق حكومي واحد يفترض فيه أن يعمل بنفس القدر من الإخلاص والتفاني والتناغم والانسجام في سبيل إخراج الوطن من محنته التي طال أمدها، وتبديد مخاوف الناس من احتمالات استمرار وطول أمد المعاناة، وانسداد أفق أي حل سياسي أو اتفاق على أولويات المرحلة المقبلة، وهي أكثر ما يرجوه كل مواطن من حكومة الوفاق الوطني، فهل تجد هذه الدعوات والأماني من يسمعها؟!. (*) جامعة إب