تكاد هذه الكلمة التي اخترتها عنواناً لمقال اليوم أن تُلخّص الحالة الهندية بدقة بالغة. الإقلال ليس مثلبة، بل فضيلة استثنائية كتلك التي تذكرني بقول الحكيم البوصيري : وأكدت زُهده فيها ضرورته إن الضرورة لا تعدو على العصم هنا ينبري البوصيري لتفسير معنى الزُهد المقرون بالإقلال، مُعتبراً أن هذا النوع من التزهُّد فيما هو زائد عن الحاجة يُمثل قمة الضرورة المقرونة بالحرية الحقيقية التي عرّفها «فريدريك انجل» المادي البرهاني بوصفها ممارسة الضرورة هكذا«الحرية مُمارسة للضرورة».. والشاهد أن الزهد في الكلام دليل حكمة، والزهد في الاستهلاك دليل توازن نفسي وتصالح مع نواميس الجسد والروح، والزهد في العلاقات دليل شفافية وامضة، واستغوار في الأنا الرائية المُبْصرة. لاحظتُ في الهند فلسفة التعامل الزاهد مع الحاجات من خلال المآدب الغذائية المتواضعة، والصحية في آن واحد، كما لاحظت ذلك في القدرة على الاستماع أكثر من الكلام. ففي المؤتمر الذي كُرّس لمناقشة الربيع العربي لم ألحظ تداخلات تتعمّد التقاطع المجّاني مع أحاديث المُشاركين، وكانت الأسئلة تتّسم بدرجة واضحة من الاختصار المقرون بالتحديد، وهذا ما لم آلفه في الندوات والمُلتقيات العربية الصاخبة التي لا يلتزم فيها المشاركون بقواعد التعامل الحميد مع الوقت توخياً للفائدة، فاللغو الزائد والتصادمات البيزنطية الفجّة سمة غالبة على ملتقيات العرب، ولا أتصوّر أن هذا له علاقة بالبيان والبديع العربيين، فالبيان الناضج سمة الكلام الغنائي الذي يزدهي بالمعاني، ولاعلاقة له بالثرثرة واللُّجاج الزائدين عن الحاجة . قد يرى البعض أنني أُبالغ في تقريض مشاهدات الهند التي بدت لي كالفتوحات التي فاض بها ذات يوم قريب القلم اليماني الاستثناء عبدالكريم الرازحي، بل إنني لم أتزيّد البتة في ما ذهبت إليه، فقد قرأت أسفار الحكمة من وراء حُجُب المشهد الذي يعتمر بكثير من المفارقات الصادمة التي لا تسر الناظر الإستنسابي القادم من الذات الغارقة في نموذج نرجسيته الخاصة. الهند بلد العجائب بامتياز، ولا أتصور أنني سأفرغ من كتابة ذكريات الأيام الثلاث في عمود يومياتي الذي ينتظر تنويعات مدارية في الشؤون اليمنية، لكنني استسمح الجريدة والقارئ معاً في لملمة شوارد الانطباع خلال يومين قادمين. [email protected]