يستمد الخط العربي جوهره المعنوي والاشاري من النقطة التي منها تتفرع الأحرف واليها تؤول، وتنسجم الحروفية العربية مع الحقيقة الأزلية القائلة بأن لكل ظاهر باطن، وأن ما نراه مكتوباً على بياض الورقة ليس إلا جزءاً من كل . ألا يُكتب الحرف العربي دون صوتياته الاحتمالية من فتحة وكسرة وضمة وفتحتين وكسرتين وضمتين وسكون وشدّ ومدّ ؟. أليس الغائب الصوتي في الكتابة أبلغ دلالة مما يظهر على السطح؟. ولا يخرج عن هذه القاعدة الكتابية سوى الرسم القرآني غير المجاز خارج الظهور العياني للسواكن والمتحركات، فقد حرص علماء الرسوم القرآنية على تثبيت التشكيل في النص الكريم حتى لا يخطئ الناس في قراءته. ليست النقطة إذاً مجرد محل هندسي يحدد ابتداء الألف.. أصل الحروف كلها، بل إن النقطة مسار يحدد انزياحات الحروف إلى الموسيقى والمعاني والتواشجات مع أشكال الوجود المختلفة . فإذا كانت النقطة مساراً افتراضياً يحدد الألف، فإن الباء يتصل بالألف من حيث الطول، وهكذا الحال بالنسبة لبقية الحروف، فالتوازن النبيل بين الأشكال ينشأ من مركزية الألف تجاه بقية الحروف، غير أن ذلك لا يمنع الحروفي العربي من تحريك هذه التوازنات النبيلة الى مستويات جديدة كما نرى ورأينا في فن كتابة الحروف العربية مما لا نظير له في العالم. أقول هذا الكلام للنظر في قابليات التعامل التشكيلي مع العناصر التراثية الموصولة بالحروف والنقش والرقش والزخارف، مما نجد له ظلال بحث وتجريب عند الفنانين، غير أن المهم المهم ليس البحث الشكلاني الصرف، بل الغوص في المنطلقات المفاهيمية والفكرية لهذه الأشكال . الأقواس والانسيابات والمدى والتعامل المرن مع الفراغ المتاح (بياض الصفحة أو فراغ اللوح) صفة حاسمة في فن الحروفية العربية، وفي ذلك الكثير الكثير من القول والإشارات . واذا قمنا بانتقال آخر إلى العمارة الاسلامية سنجد أن ذات المفاهيم الجمالية تحضر بوضوح دونها الأقواس والفراغات والأعمدة المتناظرة والأبواب المشرعة على كل الجهات، بل الجهات الست التي قال فيها الشاعر مخاطباً الحق : ملأت جهاتي الست منك فأنت لي محيطي وأنت مركز نقطتي وفي هذا القول يمكن تدبر الأفكار والتداعيات. [email protected]