لا أحد يخسر هنا، سوى البسطاء. في كشر ومستبا وعاهم بمحافظة حجة تولد كل يوم مآسٍ إنسانية لايتأثر بها إلا أضعف الخلق، بسطاء بفقر، يحتاجون للقمة أكثر من الفكرة، ويحتاجون لغرفة تطرد عنهم هجير خيمة النزوح، أكثر من ملزمة أو كتاب لا يشبع بطونهم، وعلبة ماء ودواء أهم من رصاص يخترق بقايا حياة ينتزعونها من فم الرعب انتزاعاً. خلال الأيام الثلاثة الماضية كنا أمام مخيمات النازحين في مناطق متعددة هناك، وزرنا الأطراف المتصارعة لنفتح على أنفسنا باب أسئلة لاتغلق. تتشبث بقميصي عجوز أكلت قساوة الحرب ملامحها الأنثوية، كما لو كنت المخلص لها من جحيم الحر وعذاب الفاقة، أرادت أن أنظر في خيمتها التي ليست خيمة، وفي حاجياتها التي لاتقي أسرتها من حر أو برد، ولا تشبعهم من جوع، أو قهر. هنا يتساءل السؤال، لماذا يتحارب بهؤلاء؟ ولماذا يتحاربون أساساً؟ يقول عجوز بكل بساطة: “أمريكا في الفضاء، وهم يحاربونها في عاهم”، ويقول أبو يحيى المطري الناطق الإعلامي للحوثيين في حجة، إن الأطراف التي تواجههم هي من تحول بينهم وبين الأهداف الأمريكية. منطق لايشبع جوع تلك المرأة النازحة، ولا يفك أسر طفل قيدته والدته إلى سرير كي لايهرب بعد أن أصيب بحالة نفسية جراء الحرب وإصابته في منطقة عاهم في الشمال الغربي لمحافظة حجة. يقول الحوثيون إنهم يرغبون بالتهدئة الآن، وتسري هدنة حذرة بين طرفي القتال، بينما يشعر الناس هنا بقلق من تكرار الحرب لأنها استوطنت تلك المديريات ولم يعد هناك من أمل بمغادرتها إلا بمغادرة جميع المسلحين القادمين من خارج حجة من الطرفين. يعتبر بند مغادرة المسلحين للمحافظة أحد بنود الصلح الأخير الذي تم توقيعه قبل أكثر من أربعين يوماً، وتوقف القتال بموجبه قبل عشرين يوماً. لا أحد واثق من تنفيذ ذلك البند، والمقاتلون القادمون من صعدة ليسوا مستعدين بعد ويصرون على الدفاع عن زعيمهم يوسف المداني بكل السبل كونه ابن منطقة مستبا، وهو الأمر الذي تسبب بالحرب كونه عاد من صعدة بعد سنين من القتال مع الحوثيين هناك، فرأى البعض عودته نذير سوء للمنطقة، بينما رأى رفاقه الأمر حقاً. لم تنحصر الحرب على منطقة يوسف المداني وامتدت إلى مناطق أبعد وهو منطق ينفي الحديث عن أن الأمر مرتبط بمسألة وجود الرجل في منطقته الحدودية مع كشر. حرب ملتبسة المعالم، حيث يقود الطرف الآخر أيضاً جناحين قبلي وديني، وهو الأمر الذي يربك الباحث عن تضاريس مايحدث، فالبعض اعتبره محاولة لتركيع أقوى قبيلة في حجة (حجور)، والبعض يقول محاولة وصول إلى ميناء ميدي، ورئيس فرع المؤتمر بمستبا يقول إن مجموعة من المنتفعين فقدوا مصالحهم فأتوا بالحوثيين كي يخلقوا منهم حليفاً ينتفعون به.. مئات الأشخاص سقطوا بسبب هذا الهراء الذي لم أفهمه، لكن في نهاية المطاف تتكشف أمور أخرى أكثر قذارة من كل هذا. تقول معلومة خاصة إن أحد زعماء السلفيين الذين يحاربون الحوثيين في حجة ألقي القبض عليه في المحويت إن لم أخطئ قبل يومين، وبحوزته أسلحة، لكن أحد أقارب الرئيس أصدر توجيهاً بإطلاق سراحه مع أسلحته. ألاعيب كثيرة يكذب بها كل طرف علينا، لذلك تخرج من كل هذا العبث حائراً، لا شيء حقيقي أمامك إلا الخيام الممزقة التي تستضيف الحرارة بكامل قسوتها، والبرد بكل شغفه، إلى جانب الجوع الذي لايبقي مكاناً للرحمة. حرب مذاهب، وحرب مصالح، وحرب يخوضها أولاد صالح مع الجميع ضد الكل، وأسئلة من قبيل لماذا كل هذا؟ تشعرنا أننا أرخص من طلقة، وأرخص من خيمة، وأرخص من ابتسامة سرقت من شفاه أطفال نصف عرايا في مخيمات النزوح الممزقة.