لا يكفي، لكي تكون معارضاً لنظام سياسي فاسد وفاشل، أن تكون متمتعاً بوعي سياسي جيد، وضمير أخلاقي حيّ. بل إنك بحاجة مع ذلك إلى حس جمالي مرهف. ولا أبالغ إذا قلت: إن وجود هذا الحس وحده كافٍ لجعلك معارضاً صلباً لا يقبل أنصاف الحلول. وآية ذلك أنك قد تجد في صفوف الأنظمة الفاشلة الفاسدة من يتمتع بنصيب من الوعي السياسي، مع ضمير هش، ومن يتمتع بضمير جيد مع وعي سياسي هش. لكن من الصعب أن تجد في صفوف هذه الأنظمة صاحب حس جمالي راقٍ. والنادر لا حكم له. فما بالك إذا اجتمع الوعي السياسي والوعي الأخلاقي والحس الجمالي المرهف في نفس واحدة!. لقد تأملت طوال الأشهر المنصرمة من عمر الثورة اليمنية الأخيرة سمات وخصائص كلاً من الشخصية المعارضة والشخصية الموالية للنظام، وخلصت إلى تأكيد ما كنت أظنه بالأمس من علاقة ضدية للجمال بالفساد والاستبداد. حاولت أن أجد سمة نفسية تتسم بالثبات، تكون فيصلاً بين الفريقين فلم أجد أفضل من هذه السمة. فليس منسوب الوعي السياسي وحده هو الذي دفع الثوار إلى الخروج للمطالبة بإسقاط النظام. بدليل أن كثيراً ممن التحق بهذه الثورة هم من بسطاء الناس. وأدل من ذلك وجود عدد من الشخصيات التي تتمتع بوعي سياسي جيد في صف النظام نفسه. وإن كانت النسب النوعية كلها في صف الثورة. فالنسبة الأكبر من المثقفين والسياسيين ورجال الدين والجامعيين والإعلاميين ومؤسسات المجتمع المدني تقف في صف الثورة. وكذلك ليس ارتفاع مستوى الوعي الأخلاقي وحده هو الدافع للخروج في وجه النظام، بدليل أن كثيراً من بسطاء الناس، ممن يعرفون بسلامة الضمير، قد اختلط عليهم الأمر فوقفوا في صف النظام أو في منطقة الحيرة والتردد. وهذا لا يعني خلو صف الثورة من أصحاب الوعي السياسي والوعي الأخلاقي، فإن النسبة الأكبر من هؤلاء هي في صف الثورة كما أسلفت، وكما يتضح للمراقب القريب. وإنما أريد الوصول إلى خلاصة بسيطة تعقبها محاولة تفسيرية لما قلت. هذه الخلاصة مفادها أن من السهل أن يقع صاحب الوعي السياسي الناضج، أو صاحب الوعي الأخلاقي، في حبائل الدعاية السياسية المضللة للنظام السياسي الفاسد. إلا أن من الصعب أن يحدث ذلك لصاحب الحس الجمالي المرهف. وتزداد صعوبة ذلك بزيادة شرط أو أكثر من شروط الوعي السابقة. وتفسير ذلك من وجهة نظري يكمن في صعوبة تضليل جهاز التفضيل الجمالي للإنسان إذا ارتقى. إذ أن هذا الجهاز النفسي يقوم على مبدأ المقارنة الدائمة بين القبح والجمال، مشدوداً إلى المثال المتعالي. وهو يتعامل مع كل خطأ سياسي على أنه قبح مرفوض. وهذه هي الترجمة الوحيدة لديه. ولا مجال عنده لقبول أنصاف الحلول بين القبح والجمال، بين المثالي والمنحط. وهذا بالضبط هو ما يفسر موقف هذه الشريحة الكبيرة من بسطاء الناس وجهلتهم وأشباه الجهلة _ وهم الأغلبية العددية في اليمن _ من مبدأ التغيير والثورة. إذ يعجب المراقب الخارجي لموقف إنسان سحقه النظام السياسي جسداً وروحاً وكرامة، بالفقر المدقع، والأمراض المستعصية، والفساد المضني، والتجهيل المتعمد، والحروب القبلية الطاحنة، حتى مسخ سويته الآدمية مسخاً. ومع ذلك تجده رافضاً تغيير النظام السياسي الذي أوصله إلى هذه الحال!. وعند التأمل في هذه الحالة العجيبة، تجد شيئاً لافتاً للانتباه، هو أن صاحبها لا يشعر بالخجل أصلاً من هذا الوضع المشين، الذي أوصله النظام إليه. ومن ثم فإنه لا يشعر بجريمة النظام في حقه. ولهذا تحديداً فإنه إذا حاول مقارنة وضعه _ في سياق التبرير لموقفه السياسي المؤيد للنظام _ فإنه عادة ما يختار النماذج الأكثر رداءة وانحطاطاً للمقارنة. فيقول مثلاً: إن وضعنا في ظل هذا النظام الفاسد أفضل من وضعنا أيام حكم الإمامة، وأفضل من وضع الصوماليين اليوم!. وهذا النوع من المقارنة يشير إلى انعدام الحس الجمالي والنموذج المثالي في ذهن صاحبه. فلا عجب أن كان معظم أصحاب المستوى الثقافي والمدني الرفيع هم من أنصار الثورة. وعلى العكس من ذلك أنصار النظام. والحديث هنا عن المجموع لا عن الجميع بالطبع. ونحن نعرف بالبداهة قبل الاستدلال أن رصيد معظم شرائح المجتمع اليمني من قيم الجمال منخفضة أو منعدمة. ليس لأنهم كذلك بالفطرة، فهم أصحاب مزاج فني معروف. وإنما لأن الأنظمة السياسية المتعاقبة عليهم كتعاقب الأمراض المستعصية، قد قطعت الطريق بينهم وبين مصادر الجمال المختلفة أو كادت. ومن يزرع الشوك لا يحصد العنب!. وهكذا كنت أجادل بعض من أعرف من أنصار النظام مازحاً وجاداً بالقول: إن معظم أنصار نظام صالح هم من أنصار “تقية الطويلية” و«علي حنش» أيضاً (كلاهما مغنٍ شعبي يمني من طراز شعبان عبد الرحيم). وأما أنصار فيروز وعبد الحليم حافظ فهم هناك في ساحات الثورة!. إذ لا مجال لأن تكون صاحب حس جمالي مرتفع ومؤيد لنظام صالح في الوقت عينه. فهما ضدان لا يجتمعان في نفس واحدة!. ولا شك أن قارئاً موالياً لنظام صالح لن يعجبه هذا الكلام. ولعله يقول: إن أحكامنا السابقة اعتباطية ولا تقوم على أساس علمي. والحقيقة أن المستوى المتدني لأنصار هذا النظام في القيم الجمالية والقيم الأخلاقية لا يحتاج إلى بحوث ودراسات لكي نقرر وجوده. فهو أمر يمكن لمسه بالحواس الخمس لكل متابع، تماماً كما تلمس فقر الصوماليين، ونظافة اللبنانيين، وثراء الخليجيين!. ومع ذلك فلن نعدم دراسات علمية تؤيد ما ذهبنا إليه. ومن تلك الدراسات ما ورد في كتاب “التفضيل الجمالي” للدكتور شاكر عبد الحميد. فقد وردت خلاصة لدراسة طريفة قدمها باحثان غربيان، خلصت إلى وجود شخصيتين نموذجيتين: الشخصية المركبة، والشخصية البسيطة. الأولى تتسم بالتعبيرية والطلاقة في الكلام، وبالراديكالية السياسية، وتكون أكثر عصابية. أي أكثر حساسية تجاه الواقع. وفي هذه الفئة تجد الفنانين والأدباء والمفكرين. والأخرى تتسم بأنها أكثر صراحة وأقل خبرة، ومؤيدة للحكومة في كل قراراتها. وفيها تجد بسطاء الناس وعوامهم وأشباه العوام من الخواص. مع استبعاد فئة الانتهازية السياسية من الكتبة والمتكلمين من هذه الحسبة ولا شك!. فإذا صح ما ذهبنا إليه في السطور الماضية، فإن من معانيه أن تكون “التربية الجمالية” هي أهم ضامن لمقاومة الفساد والاستبداد عند الأمم. وإحدى محركات النهوض والبناء. ولعل هذه الحقيقة أيضا تساهم في تفسير ظاهرة تخلف المجتمعات العربية في مختلف مجالات الحياة. وفي مقدمتها المجال السياسي. حيث تهيمن النظم السياسية الاستبدادية الفاشلة. إذ لا يخفى على أحد حجم القطيعة التي عاشها العرب_ باستثناء النخب المحدودة _ مع مصادر الفن والجمال طوال القرون الماضية. ساهمت في تلك القطيعة روافد كثيرة منها طبيعة الخطاب الديني الحشوي المهيمن، الذي نصب راية العداء لمعظم الفنون الجميلة. ولا مجال في هذه العجالة لاستقصاء الشواهد والدلائل على ذلك. نخلص من السطور السابقة إلى أن السبب الأهم في اصطفاف أكثر اليمنيين مع النظام، بالرغم من كل الفشل والفساد الذي يمثله، هو عدم شعور هذه الفئات المناصرة بالخجل من الوضع الذي آلت إليه أحوالها وأحوال البلاد برمتها. ونقص الشعور بالخجل أو انعدامه هو ثمرة طبيعية لغياب المعايير الجمالية الراقية لديها. وهذا الأخير بدوره ناتج عن انعدام أو ضعف التغذية الجمالية في حياة اليمنيين لسبب أو لآخر!. فهل تأخذ التيارات السياسية، ودعاة التغيير جميعاً هذا الأمر على محمل الجد في مستقبل الأيام، أم أن ضعف حسهم الجمالي سيسهم في تهميش دور الفن والجمال في مقاومة الفساد والاستبداد، كما هي العادة؟!. [email protected]