إن اتساع أفق قراءتنا للمرحلة ومعطياتها ضرورة ملحة ليتسنى لقطار الفعل الانساني السير فوق قضبان الزمن, ولا يخرج إلى الهاوية , لقد حشرنا في قشور المرحلة الراهنة وتأويلاتها الخادعة في حين يلتبس إدراكنا لمعطيات الأحداث والزمن وتطورات القوى الصاعدة إقليمياً والتي تقاتل لتفرض وجودها على الساحة الإقليمية والدولية جاعلة من الراهن العربي رقعة شطرنج تستظهر من خلاله مهاراتها وإمكانياتها في فرض وجودها, فتدس أنفها في قضايا الشعوب التي مزقت رياح التغيير أشرعة سفنها , ونحن لازلنا نصر أن نعيش الدور كما رسمته بعض تلك القوى لفرض وصايتها عبر وكالاتها التي صنعتها هناك , راسمةً مساراً وهمياً لحقيقة المشروع الذي تحمله تلك القوى ,ولنغرد نحن خارج السرب وبعيداً عن المشروع الذي تسعى إلى تمريره في المنطقة وعلى يد أبناء تلك الدول .. فخَلقت حالات من صراع مرهق وغير منجز لا يحمل نتائج يمكن أن تتحقق على أرض الواقع بقدر ما هي إرهاق لمكونات الصراع , في الوقت الذي يسير فيه مشروع تلك القوى حثيثاً نحو الغاية المرسومة له , ولعل ذلك يتجلى في المشروع الإيراني كنموذج , المشروع الذي لم يعد يبحث عن مساحات جديدة لنشر الشيعية ولا عن مؤمنين جدد بالمذهب الاثنى عشري بقدر ما هو مشروع استراتيجي كقوة إقليمية تشارك وبقوة في رسم خارطة المنطقة , ففي الوقت الذي نحن مصابين بفوبيا المد الشيعي إيران تتمدد استراتيجياً في عمق المنطقة , وإذا لم نفق من غيبوبة الصراع المذهبي فسنكون جزءاً من ذلك المشروع دون أن نشعر , فمن لا يمتلك مشروعاً يصير جزءاً من مشاريع الآخرين , لذا يجب التعامل مع المشروع الإيراني بوجهه الحقيقي الذي يسعى لفرضه على المنطقة , لغة اليوم غير الأمس , ولا زلنا نستخدم ذات المفردات وذات أدوات الصراع التقليدية في حين أن الخصم قد غير آلياته واستراتيجية تحركه وصراعه . إيران قوة إقليمية استطاعت أن تتجاوز عُقد التاريخ ومعوقات الصراع على مستوى الداخل , لتمتلك مشروعاً حقيقياً لدولة فاعلة ومؤثرة على مستوى الخارج وقادر على تأسيس وجود استراتيجي لها في العالم , لا بد أن نستوعب أن صراعنا مع إيران في الوقت الراهن ليس صراعاً مذهبياً بدرجة أساسية بل صراع سياسي واستراتيجي. , لقد تصالح الكاثوليك والبرتستانت وهم أصحاب الصراع المذهبي الطويل , كما أننا قد رفعنا شعار قبولنا بالآخر من الديانات الأخرى ووهن صراعنا معهم وتقبلنا وجودهم كأمر حتمي ,في الوقت الذي نرفض باستماتة أن نقبل أنفسنا بل ونفتح بوابة الصراع المذهبي مع ذاتنا متسلحين بتركة من الأكاذيب التاريخية والعقائدية , بضاعة نتنة من الصراع غادرها الغرب منذ العصور الوسطى ورجعنا نحن للمتاجرة بها , وكان لليمن نصيب من هبات الجحيم , اليمن تحتاج في هذه المرحلة العقل وليس العاطفة المأزومة لتقفز فوق الصراعات المذهبية والإيديولوجية إذا كنا عازمين الخروج من نفق المرحلة إن اشتعال ما يسمى بالصراع الحوثي السلفي في اليمن حماقة بكل المقاييس والتعامل مع الأمر أن الحوثية مشروع إيراني صرف هو حمق مضاعف , وأن نتعامل مع الأمر برمته على أنه صراع ديني , ونستمر في مصارعة طواحين الهواء ليتوقف الزمن عند فوهات بنادقنا ودمائنا المهدرة ظلماً وسفهاً, لن تستطيع أن تخطط وتبني وأنت على جبهة القتال لا بد من وقفة للبناء, لقد فتحنا النار على بعضنا ونحن أبناء وطن واحد والشماعة هي إيران والمشروع الشيعي, لابد أن نتوقف عن التفكير الاقصائي, والقبول بالجميع مهما اختلفت توجهاتنا الفكرية والمذهبية وحتى العقائدية, وإذا كانت القضية مذهبية كما صورها لنا طباخو الصراعات، فلنسأل أنفسنا هل نحن مذهبياً وعقائدياً ضعفاء وعلى باطل ونخاف من ذلك المد؟ أليس لدينا رصيد مذهبي وفكري لمواجهته ؟ .. ولا يخاف إلا من كان على باطل ..وإن صح ذلك فتلك كارثة إذ نكون على غير الهدى ودين الحق وهم العكس من ذلك , وإذا كانت القضية سياسية وأطماع سيطرة وفرض قوة وحضور وهذا هو الوجه الفعلي لذلك , فلابد من مغادرة مربع الصراع المذهبي والانطلاق الى مساحات السجال السياسي والاستراتيجي وتكون المواجهة بأدوات من ذات أدوات الصراع ولا نكون في وادٍ وهم في وادٍ آخر ,يجب العمل وبقوة لتغيير آلية العمل على ملف الحوثية وتفكيك الصراع ونزع فتيله نهائياً من اليمن ويكفي ما حدث إلى الآن من تجيير الملف إلى صراع مذهبي , والتعامل معه كقضية سياسية بدرجة أساسية حتى لا تستمر المهزلة التي تغذي فصولها الأطراف المستفيدة من الوضع في اليمن وتعزيز حالة التشظي والإقصاء . إن إيران قد تخطت المشروع الديني منذ وقت مبكر وتصالحت مع نفسها واتجه الجميع نحو إيران الدولة وليس إيران الدين، وهنا يجب أن ندرك أنها تسعى وبقوة لتكون لاعباً حقيقياً في المنطقة وليس هامشياً، لذا لن تتكئ على الورقة المذهبية بقدر ما تتكئ على مواقفها من قضايا المنطقة وصناعة الأحلاف الفاعلة فيها، لذا صار مشروع إيران ينطلق من مفاعل بوشهر والمدن الصناعية في اصفهان وطهران وليس من الحوزات والحضرة الجعفرية ولا من مقامات الأئمة في قم ومشهد ,إن سلطة الفقيه لم تكن عائقاً أمام التنمية والبناء في حين أننا نحن المتشدقين بالديمقراطية واللبرالية والإسلام الحق نركض خلف السراب , القضية ليست في المذهب ولا في الدين بل في طريقة نظرنا وتعاملنا مع كل تلك القيم , لقد أغرقنا بالصراعات منذ البعيد , فنحن نتصارع وغيرنا يبني ويتحرك، نحن نصيح ونسب ونكفر وندعو بالويل والثبور وعظائم الأمور على الآخر وهو يتقدم ويصير أقوى ونحن اضعف , ولكم في إسرائيل عبرة لمن يعتبر!. ولنستبين الرؤية جيداً يجب أن نتوقف ونسأل: أين صارت إيران وأين نحن ؟ ماذا حققت إيران رغم حداثة ثورتها وماذا حققنا نحن العرب ؟ ففي سنوات قليلة استطاعت إيران أن تقطع أشواطاً طويلة , حملتها الى مصاف الدول ذات السيادة والتأثير في السياسة العالمية , لا بد أن نخرج من زجاجة نظرتنا إلى الصراع المذهبي والأعداء التاريخيين ونتعامل مع إيران وغيرها من خلال مشاريعهم على أرض الواقع والتي تتحدث عنهم , وليس عن عُقدنا و أمراضنا الحضارية , فكل من نسميهم أعداء يمتلكون مشروعاً , ونحن نمتلك أصواتاً وضجيجاً ومزيداً من الدمار ومزيداً من الشتات.