مثلما تقود الأفكار العظيمة الأمم نحو الرقي والبناء والحضور الحضاري والشراكة الإنسانية الفاعلة كذا هي الأفكار الشاذة والهدامة تدمر الأمم وتحفر قبرها وتصنع نعش موتها وتجعل المجتمعات تسير القهقرى في تفسخ وغياب مفجع وموت حضاري مريع. ولعل من تلك الأمراض الفكرية والسلوكية التي تصيب الأمم ذلك المسخ من السلوك الفكري المسمى إرهاباً, والذي استطاع خلال سنوات قليلة من حضوره المتوحش أن يطور أشكاله وأدواته متكاثراً وبشكل بكتيري متسارع، معلناً عصراً جديداً من الوحشية والجاهلية، ولكن هذه المرة بشعار الدين, وعلى وجه الخصوص الإسلام؛ حيث يتعرض لهجمة شرسة ممن يتحدثون باسمه بما ليس فيه, وينصبون أنفسهم أولياء على هذه الأمة، فجعلوا الإسلام رمزاً لهم وستاراً لفكرهم الشاذ. وهم قبل أن يقدموا على تفجير عبوة ناسفة أو حزام ناسف قد يقتل عشرات الأبرياء, هم ينسفون مئات آلاف من العقول والأفكار والقناعات في مجتمعهم ولدى الآخر عن الإسلام؛ الدين فكراً وسلوكاً, وهم بذلك يشوّهون مسيرة أمة ودين ظل لأربعة عشر قرناً دين السلام والمحبة. إن الإرهاب ليس عملية تفجير وخطف وإرهاب لسائح أو مواطن فقط إنها عملية متواصلة من تدمير وقضاء على مستقبل الأمة، واليمن واحدة في سرب, ولعل ما وصل إليه الإرهاب في اليمن من تحوله من العرضي إلى الظاهرة مؤشر يدعو للتوقف طويلاً أمام هذا الفيروس الذي يدمر أدوات وأجهزة الإبداع والتنمية والتفكير والانطلاق لدى الأمة ويشل حركتها ليخرجها عن المسار الطبيعي للحركة الإنسانية والفعل الحضاري السليم. ولعل الأبعاد الأكثر خطورة في هذا الوباء واستشرائه في جسد المجتمع العربي واليمني على وجه الخصوص أنه يقلل نسب وفرص التنمية والتغيير على مستوياتها: الإنساني والاقتصادي والفكري والسياسي...إلخ، وبالأخص وهو يتحرك تحت عمامة الدين - والإسلام منه براء - فهذا يزيد الطين بلة لمجتمع تعتبر عاطفته الدينية هي المحرك الأقوى لمسار حياته. ففي مجتمع كاليمن يتسم بتفاعله العالي مع كل المنطلقات ذات الجانب الديني والروحي، وتجعله ضعيفاً أمام تلك المنطلقات والمعطيات، فتكون قابلية التلقي والتعاطف عالية، مما يصنع شرخاً عقائدياً لدى الفرد، فيكون الميل تجاه ما هو ديني بغض النظر أكان سليماً أم لا؟. أضف إلى ذلك طبيعة التركيب الاجتماعي لليمن، والتي يسودها النظام القبلي الذي يجعل الانتماء والولاء للقبيلة جزءاً من حياة الفرد، إن لم تكن كل الحياة بسلبياتها وإيجابياتها، بغثها وسمينها, فينتج ثقافة التعزيز للفرد والقبيلة في السلم والحرب، في الخطأ والصواب. كما أن الطبيعة الجغرافية لليمن، والتي تفتح شهية الكثير من حملة الأفكار الضالة والانهزامية والتكفيرية في جعل هذه الجغرافيا حاضنة نوعية لنواة ومشاريع العناصر الإرهابية. إن الهدف الأساسي للإرهاب هو بث الرعب وإرهاق الخصم من الداخل، فيدفعه إلى فقدان الإيمان بما حوله وبمعتقداته وأفكاره، فيصيبه بالشتات الفكري والسلوكي، فيغدو سهل المنال في السيطرة والتوظيف. إن الإرهاب سلاح سياسي بامتياز؛ فقد تحوّل الإرهاب من كائن شرود إلى كيان مدجن لدى الأنظمة السياسية، وغد بضاعة تدخل ضمن صفقات السياسة, مقابل البقاء في ساحة الحدث والشراكة لأطراف الصراع. إن الإرهاب في اليمن أخذ يغير هيكليته من عمل فردي أو جماعات جهادية إلى مشروع دولة أو إمارة سياسية، وهنا تكمن الخطورة. فهل الصراع الواقع في الوقت الحالي لتلك الجماعات التي تبنت الإرهاب كسلاح هو صراع قيم أم صراع مصالح؟. المتتبع لمسار الأحداث - منذ ظهور القاعدة كحركة جهادية دينية في اليمن وإلى اليوم - يجد أن مسار الأحداث وتطورها يشير إلى أن اللعبة كانت أكبر من جماعة دينية، لها قناعات دينية قيمية تسعى إلى فرضها بقدر ما هي ورقة سياسية وصراع مصالح, استخدمت في بداية اللعبة، ولكن كرة الثلج كبرت وأخذت تتدحرج، فلم يستطع مبتكرها إيقافها؛ فقد انقلب السحر على الساحر، فأخذت تلك الجماعات تلعب في الوقت الحالي لصالحها, شبت عن الطوق, ولم تعد “فزاعة” بيد مستخدم أحمق لم يقدر بماذا ومع من يلعب؟. إن الإرهاب هو سلاح سياسي بامتياز، وليس أداؤه أيديولوجية لفرض معتقد أو نمط فكري فقط. إن ما يجري في أبين - تحت مسمى أنصار الشريعة - هو مشروع سياسي صنع بأيادٍ داخلية, ولكن خرج المارد عن السيطرة، وأخذ بُعداً ودعماً إقليمياً للتنظيم، فامتدت أيادي أكثر كفاءة وقدرة على إدارة هذا البعبع إلى اليمن وتبنت التنظيم، وغدت قوافل ما يسمى الشباب المؤمن تحط الرحال من دول الجوار في حضرة أمير المؤمنين في إمارة وقار عشرات القوافل، محملة بأحدث التجهيزات، قبلتها أبيناليمن، وبمباركة إقليمية وتغاضٍ دولي. أبين الموقع الأكثر استراتيجية لعمل الجماعات المتطرفة، فهناك الرصيد الجيد من الخرافات والأساطير الدينية التي تغذي وجود وبقاء تلك المجاميع من قصة جيش عدنأبين إلى يوم المعاد، ونار قعر عدن وغيرها، وكلها تصنع أرضية قوية لانطلاق مشروع الإمارة والخلافة الإسلامية. إن من الخطأ الاستهزاء والتقليل من خطر تلك الجماعات وثقافتها ومنهجها الإرهابي الذي تزعزع به إيمان الناس بالنظام القائم وبالدولة الموجودة. وهناك طرح لا يقل خطورة عن ذلك في توصيف وتكييف أنصار الشريعة وأنشطتهم وأعمالهم في أبين وغيرها من المحافظات تحت ذريعة قد أفل زمنها، وهي أن أنصار الشريعة هم أداة من أدوات النظام السابق، وبمجرد سقوط النظام سيسقط التنظيم. إذا كان النظام السابق وبعض رموزه هم من صنع أسطورة القاعدة في أبين فقد تجلت الأسطورة إلى الواقع، ولم تعد “فزاعة” - كما أريد لها أن تكون - بل صارت مشروعاً سياسياً واستراتيجياً في المنطقة، ووجدت من يستفيد من وجودها في هذا المكان الاستراتيجي من الساحل الجنوبي لشبه الجزيرة العربية. إن تموضع القاعدة وأنصار الشريعة في اليمن ينبع من وجود التربة الخصبة لذلك المشروع, ليس فقط الغطاء السياسي الذي وفره النظام السابق, بل ما أشرنا إليه سلفاً من التركيبة الاجتماعية لليمن والخطاب الديني التطرفي الراديكالي الذي يتبناه الكثير ممن ينصبون أنفسهم مرجعيات, ليجدوا القلوب اللينة التي تميل مع ما يهرفون به. كما أن أبين كانت ولسنوات طويلة ضمن الخطاب والمسلك الفكري للحزب الاشتراكي بيساريته، والذي أثث لردة عقائدية من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، فجعل بعض تلك القيادات تبحث عن الله من خلال فوهة البندقية وطلقات المدافع وصرخات الجهاد, فبعد أن انتهى مشروع الجهاد على أرض البلقان, وجدوا أن الجهاد الحق هناك في بلدانهم، فالأقربون أولى بالإرهاب. ولكن وبنظرة تحليلية لعمل ومسلك تلك الجماعات، نجد أن مجرد ظهورها هو إيذان بنهايتها، فهي لا تستطيع أن تعيش في الضوء لفترة طويلة؛ لأنها تجد رفضاً شعبياًَ ودولياً، ولا يمكن أن تتكيف مع العالم الذي تعيش فيه. لذا هناك أمران أساسيان؛ الأول: أن هناك أطرافاً إقليمية تغذي هذا المشروع في أبين, وأن أطراف الداخل قد فقدوا السيطرة إلى حد بعيد على أنشطة وتحركات الجماعة؛ نتيجة تدخل تلك الأطراف, الأمر الآخر: أن التنظيم يعمل على أساس مشروع سياسي، ويستميل أبناء المناطق التي حوله بالترغيب والترهيب من خلال الإرهاب والمال, وهذا يفسره ذلك الخطاب الذي تبناه مؤخراً طارق الفضلي. إن الإرهاب نبتة خبيثة وفكر دخيل على المجتمع اليمني الذي اتسم بالبساطة والاعتدال، وبما شهد له به سيد البشرية, إنهم ألين قلوباً وأرق أفئدة. إن الآثار التدميرية للإرهاب - كظاهرة وفكر على اليمن - هي أكبر من أن تدرك على المدى القريب أو المعلوم المدرك الحاضر, إنها عملية سرقة لمستقبل وأحلام وتقدم ونماء هذا الشعب, خلايا سرطانية تدمر جسد المجتمع وبصمت، ليستيقظ المجتمع على وضع كارثي، بعد أن يكون قد استهلك قلب الأمة النابض ووقود مستقبلها الشباب والأطفال, كل هذا مع غياب دور المؤسسة الدينية بمختلف أدواتها: (بيت, مدرسة, منبر, تلفزيون, صحافة...إلخ)، وكل ذلك مع تشاكل الخطاب الديني والتوعوي لدى القائمين على تلك الأدوات والمؤسسة المعنية بتوجيه الخطاب وغياب الرؤية الواضحة لمشروع تنموي وتوعوى فكري يقود أمة إلى الحضور الحضاري ليس الغياب الحضاري. يجب على المجتمع ككل أن يدق ناقوس الخطر الآن، وليس فوق نعشه الحزين. إن مستقبل هذه الأرض يسرق على أيدي لصوص المعابد والمساجد الذين يلوثون فكر وتاريخ هذه الأمة, وما يظهر من جبل الجليد إلا جزء من عشرة أجزاء تغيب في مجاهيل المسكوت عنه, وحتى لا نجد أنفسنا يوماً إذا ما استيقظنا أنه قد سرق منا حتى العاطفة, فلندق ناقوس الخطر والكل المسؤول, ولن تبرأ ذمة أحدنا أمام الله والمجتمع إلا بأن يضطلع كلٌ بدوره.