قالوا قديماً:((ما خلف السيل إلا مكاسر))، وهذا حال ومآل المرحلة التي عاشتها اليمن إبان الزخم الثوري والاندفاع الجماهيري إلى التغيير؛ فقد كانت تداعيات الثورة سيلاً جارفاً، اختلط فيه الحابل بالنابل والخير بالشرير والصالح بالفاسد، فكان حال تلك الثورة على وجهين: أناس خرجوا إلى الثورة بغية التغيير قولاً وعملاً مخلصين لوجه اليمن ومستقبله، وفريق خرج إلى الثورة بغية فرملة عجلة الثورة وإعادة توجيهها نحو غاية تخدم مصالحهم وبقائهم وتحفظ مكاسبهم مما جمعوه في جاهليتهم، وهؤلاء يمكن أن نسميهم الثوار البرجوازيون الذين ثاروا على ثورة البسطاء والفقراء والمخلصين من أبناء اليمن وشبابه أصحاب الفعل الحقيقي في الثورة. ومن هنا دخلت آفة تلويث الثورة كفعل إنساني قيمي يحمل هدفاً سامياً وطموحاً نبيلاً, وبذلك التصقت بجسد الثورة الكثير من الطفيليات التي سنجدها بعد ذلك هي الظاهر من الثورة، بعد أن تكون قد غطت سائر جسد الثورة, ولأن الحقيقة الجلية في الفعل الثوري دائماً أنه لا توجد ثورة نقية ولا وطنية مائة بالمائة، فقد كان من المسلم به أن نرى ذلك الكم الهائل من التناقض في الخطاب والفكر الثوري ممن صعدوا إلى منصة الثورة, التي سارت على نهج أمها الكبرى ثورة 26 سبتمبر، فالبطن التي حملت الأولى حملت العقبى وإن اختلفت طقوس الولادة , فكلهما تجلت عن تقسيم دماء الوطن وكرامته بين فاسد ومفسد. لذلك أستغرب من أولئك الذين يجعلون الثورة هي المعيار في الحكم والتعامل مع رموز الفساد فيما قبل الثورة، وأن تواجدهم في صف الخطاب الثوري يغفر لهم ما تقدم من ذنبهم وما تأخر، حيث إن دين الثورة هو المقياس. لا أدري هل الثورة ملاك كريم نزل من السماء وشق قلوب أولئك وغسلها بماء الطهر واليقين؟ وهم الذين تلوثت أيديهم بدماء وعرق اليمنيين من البحر إلى البحر، أي حكم ذلك؟ والله إنها لقسمة ضيزى وظلم يمارسه عبدة المال والسلطة في الشرعنة لإعادة إنتاج المفسدين ((الذي ما كنش لأمه كيف شيكون لخالته)). والمضحك المبكي أولئك الذين يصرون ويرفعون عقيرتهم بالمحاججة أن الثورة قد انتصرت وبصلف يريدون أن يوهموا العامة والشارع اليمني أن الثورة قد انتصرت..!. إن الثورة أفرزت مراكز قوى جديدة ومحددات صراع جديد؛ لقد أعادت إنتاج مراكز الصراع والفساد من جديد، فالمعطى العام مازال هو هو، وما تغير غير بعض الشخوص في اللعبة السياسية، وصعد بعض اللاعبين الذين كانوا في الهامش, وإن كانت الثورة قامت والتهمت كل تلك الدماء من أجل أشخاص فبئس لها ثورة. إن الثورة التي أرادها هذا الشعب هي ثورة جذور, تجتث الفساد من مكامنه دون فرز واستثناءات..(لو كانت فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)، أتذكرون ذلك؟ فهل أولئك أكرم من فاطمة بنت سيد المرسلين؟ ثورة وعي يستشري في طول البلاد وعرضها وملء فضائها. إنها أيها العابثون الثورة السلوك، الثورة الفعل الدائم اليومي للتغيير التي لا ينقطع أثرها ولا ديناميكيتها بزوال المؤثر، إنها الثورة التي تنطلق من الذات إلى الوسط الذي تعيشه، ومن البيت إلى الشارع، إلى المؤسسة، إلى المحافظة، وحتى رأس الهرم السياسي؛ فتقود التغيير داخل المجتمع وعلى مستوى جميع خلاياه، ثورة سياسية وثقافية واقتصادية واجتماعية, ولا تكون ثورة من شخص أو ضد شخص بل نظام وصل إلى مرحلة التجرثم، ولم يعد قادراً على إنتاج حتى مقومات بقائه، وصل إلى مرحلة عدم القدرة على التحكم بمفاصله حتى أصيب بالشلل الرعاش. وهل ستكون رخيصة تلك الدماء التي غسلت وجه الوطن لتنتج كائنات سياسية ضعيفة ومرتهنة للداخل الفاسد أو الخارج المتربص؟. إذن اسمعوا أيها الصم وابصروا جيداً أيها المتعامون, وليس من سمع كمن رأى, الثورة قادمة ولم تكن تلك إلا إرهاصات لثورة قادمة لم تحسبوا لها حساباً، فهذه المرة ستكون من الجذور التي أردتم لها أن تخبو، وحاولتم سحقها وإرباك انبعاثها بحماقاتكم, وماذا أنتجتم؟.. عقم سياسي. إن ما يحز في النفس ذلك الخوار والارتعاش الذي نراه الحكومة؛ القائد المحنك ليس الذي يتفاعل، بل الذي يفعل ويكون قراره أعلى من صوته، أما أن يظل الباب مؤارباً ليتسلل منطق النظام السابق - وهو الصوت العالي يشغل الطيور - فتلك كارثة. إن الذين أزكوا الثورة وحفظوها في مهج عيونهم قادمون بثورة التغيير التي يبدو أنكم لم تحفظوا قدسيتها جيداً, هناك فعل ثوري ينضج في النفوس، فكونوا على استعداد حين تصل كتائب الشهداء لتسأل عن دمائها وتحاسبكم بما قتلوا... لأجل من هذه المهزلة؟!. فهناك ثورة تعتمل في المجتمع، كونوا معها، وكفى عبثاً بما قاتل الشعب لحفظه، فأي مهزلة تسير بها حكومة الوفاق حين تصرف من اعتمادات الموازنة العامة مئات الملايين وربما المليارات من أجل مسجد لجامعة خاصة لها سياستها المالية ومواردها الخاصة؟..استحوا (فقد بلغ السيل الزبا). وهذه المرة ثورة تربت في النفوس، ولن تكون ثورة ساحات بل ثورة شوارع وحارات وبيوت، فقد أعطاكم الشعب الفرصة لتكونوا، ولكنكم لم تدركوا بعد أين يجب أن تقفوا؟. الشعب لا يعنيه في المقام الأول صالح ولا قاسم، الشعب يريد أن يعيش وليسقط الشيطان, يريد أن يجد ما خرج لأجله هو وليس ما خرجتم أنتم لأجله.. فكفى صبينة سياسية بل مهزلة سياسية, وآمنوا بالثورة كما يجب أن تكون، وحتى تكون سلوكاً وفعلاً لا ينقطع.