الرأسمالية ودولتها أكانت ناعمة أو متوحشة، ومفترسة تجارية كانت أو صناعية أو زراعية أو خدماتية مباشرة في عملية إنتاج السلع المعرفية أو الاستهلاكية أو وسطية “كمبرادور” هي رأسمالية القيمة الفائضة والربح، ولكنها تتميز بكونها منطلق وصناعة المدنية والحداثة، حتى وهي تغزو وتحتل البلدان الأخرى, أي الرأسمالي العابر للقارات القديم والمعاصر, فهي ناقل وحامل للمدنية والحداثة إلى خارج حدودها الجغرافية ونظامها الاجتماعي. والرأسمالية ودولتها في منطقة المنشأ بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية مؤقتاً واستعادة عافيتها سنة 1990م لم تتأنسن؛ لأن ذلك ليس من طبيعة جوهرها، بل هي تكيفت مع توسع قواعد الحريات والحقوق وترقي الذهنية البشرية؛ بسبب الثورة الشاملة للتقنيات والاتصالات بشتى أنواعها، وهي لا تستطيع السير في درب الوحشية المفترسة، بل هي ملزمة لتقديم التنازلات للإنسانية برمتها، وفي الصدارة توسيع وتعميق الاهتمام بالحريات والحقوق ونشاط منظمات المجتمع المدني. ويمكن القول بأن الرأسمالية ودولتها ووحشيتها هي ولادة التنوير اليمني واليساري “الاشتراكية” والطبقة العاملة والطبقة المتوسطة والحركة النقابية العمالية وغير العملية، وهي التي نقلت الحداثة والمدنية إلى عدن والمكلا وتعز والمخا والحديدة. وبات الناس يعرفون أن عدن”كريتر” كانت قبل احتلال الإنجليز لها في النصف الأول من القرن التاسع عشر عبارة عن بقايا فوهة بركان وسوق للعبيد من الجنسين وسوق عامة لا يعيش فيها أكثر من مئات من الصيادين وسدنة السوق، وبعد الاحتلال وخلال قرن ونيف أضحت أهم ميناء في المنطقة وباب المندب الذي يطل عليها أهم ممر مائي دولي، ولم تكن قرية “سوق” كريتر هي الوحيدة، بل ظهرت أحياء كثيرة تتكون منها الآن منطقة عدن، ومازالت تمتص كل ثقافة ريفية ومتبدونة وقبائلية لتصهرها في أتون مظاهرها المدنية وحداثتها السلوكية. لقد حاولت سلطة ما بعد حرب 1994م تدمير وطمس المظاهر المدنية المكتسبة في عدن والمكلا والجنوب بصورة عامة رغم تصديرها أذرعها ونشر الفوضى, أبين كنموذج, غير أن السكان بدأوا إدراك هذه السياسات الخبيثة، وهم الآن ينظمون المواجهة لاستعادة زمام المبادرة وبناء الثقة فيها كمصدر دخل سنوي مضمون بحسب مقترحنا. وأعتقد أن إنشاء دولة رأسمالية أو شبه رأسمالية لا يمكن إتمام ذلك في المنطقة القبلية – الجبلية، بل إن شروطها متوفرة في المنطقة الجنوبية والغربية, هذه الدولة التي سوف تقوم على أركان أساسية أو عناصر ضرورية ويتلخص بما يلي: أولاً: سيادة القانون، والذي يستند إلى دستور اتحادي يدعم النظام السياسي البرلماني - الديمقراطي يحدد بدقة حدود السلطات الثلاث، وبحيث تتمتع الحريات والحقوق بمساحات وبدون تغييرها إلى قوانين، وتكون مصفوفة التشريعات معبرة ومتطابقة مع نوعية المرحلة التاريخية, وسيادة القانون هو التعبير المكثف للمواطنة الاتحادية المتساوية بدون امتيازات أو تمييز من أي نوع وبدون عسف الأقليات وتغول الأغلبية، وبعيدة عن المذهبية والدينية. ثانياً: قضاء مستقل وكفء ونزيه يستطيع تجسير علاقة الصداقة بينه وبين السكان بصورة عامة وبدون تمييز وبينه وبين الطبقة التجارية والصناعية وبينه وبين المستثمرين، وتبييض صفحته مما لحقه من اعتداء وعدم نزاهة. إن القضاء في اليمن شأنه شأن التعليم تعرض للتدمير الممنهج من قبل أجهزة القوة وفي الصدارة أجهزة المخابرات والتي حوّلت القضاء إلى وظيفة خاضعة لمشيئتها, وحصد القضاء سمعة سيئة، على الرغم من وجود قضاة محترفين, لكن النظام كان يشعر بالغيظ من هؤلاء، ويقوم بإزاحتهم عبر الحركة القضائية التي تخضع لإدارة الأمن السياسي والأمن القومي, ودأب النظام على أمننة القضاء، وهو الآن بحاجة إلى مشروع مستقل لإنشائه وتنقية ما هو قائم وزائف وغير نظيف. ثالثاً: الفصل الفعلي بين السلطات في المناطق الفيدرالية وفي مركز الدولة الاتحادية بعد مرحلة انتقالية تمر بها السلطة التنفيذية والتي سوف تقوم بتصريف الأعمال وفقاً لاستراتيجية واضحة وقابلة للتطبيق على واقع شديد الانتماء إلى البداوة. وبهذا الصدد فسوف يكون أمام السلطة التنفيذية المؤقتة ملفات ذات أولوية، وهي تبدأ بفصل المنطقة الجبلية - القبلية عن المناطق الحضرية لكي تتمكن من تطبيق النظام والقانون في المناطق الجنوبية والغربية وتطبيق الأعراف والقانون في المنطقة الأخرى, وبدون شك فإن إرادة الفصل بين السلطات في المنطقة الجنوبية والغربية أقرب إلى الحقيقة، أما في المناطق الجبلية - القبلية فهي في عداد الحقيقة الغائبة, وهناك فوارق واسعة بين الذهنيتين، ونسبة قبولهما للمتغيرات والعلاقات الرأسمالية ذات الطابع السلمي, فضاربو خطوط الكهرباء مهما أبرمت من اتفاقات معهم فسوف يظلون على عهد طباعهم السابقة.. يتبع...