أعتقد أن بقاء الشباب في الساحات بالتزامن مع بقاء الشيوخ المنتهية فترات خدمتهم في المؤسسات والمصالح الحكومية.. هذا الاقتران اليوم يرسم أمام عيني صورة تراجيدية مغرقة في التيئيس، وتبدو لي الثورة حالة تجلُّط في أدمغة جديدة، فلم تعد تعمل بغير التضخم الذي يستهلك الطاقة بشراهة وينتج الفراغ. هل وُجِد الشباب ليسكنوا الساحات وتظل القيادات المعتقة تسكن مواقعها حيث الدفء والديباج وريش النعام؟! إن المجتمع في هذه الحالة يبدو غير طبيعي، لأن قانون الحياة الصحيح يوكل للشباب مهمة البناء وتسيير حركة الحياة ويوكل لكبار السن مهمة الإرشاد والتوجيه وضبط إيقاع الحياة بتكريس القيم التي تكبح جماح التهور اللصيق بفئة الشباب. بل ومن المفارقات العجيبة أن تجد ديننا الإسلامي قد تحدث عن “الشيوخ الركع” الذي هم أجدر برفع أكف الضراعة إلى الله والخروج إلى الساحات والإلحاح في الدعاء لأننا نُرزق بهم.. لكن الحاصل اليوم أن القيادات الهرِمة أصبحت هي التي تريد أن تُرزق بنا وتزداد تمسكاً بمواقعها لأن الشباب في الساحات .. فما حدث إذن هو تبادل الأدوار!! في الأمس الأول فاجأ العالم الرئيس المصري محمد مرسي بإحالة المشير طنطاوي وزير الدفاع ورئيس المجلس العسكري منذ مابعد مبارك، وكذا اللواء عنان رئيس الأركان إلى التقاعد .. ونهضت على إثر ذلك التحليلات التي تخوف من مثل هكذا خطوة جريئة.. مع أن المسألة ببساطة تتعلق بقانون التغيير الذي تجري على إيقاعه هذه الحياة، فالرجلان خدما وطنهما حتى شاخا وجاءت اللحظة التي ينبغي أن يحالا فيها إلى المعاش بقرار مزلزل لكل من يستحلي التشبث بالمنصب ورفض احترام سنِّه الذي وصل إليه، والتمنع عن تسليم ما تحت يده من سلطة لغيره من شباب الوطن الذين هم أقدر على العطاء.. وفي الأمس قرأت خبراً عن وزير النقل في بلادنا الأستاذ النشط واعد باذيب، أدركت على إثره كيف أن كراهة التقاعد لمن بلغ السن المطلوب أو انتهت فترة خدمته تُعد عند كثير من أصحابها بريد الفساد وتدهور الأداء الحكومي وتراجع النشاط التنموي .. الخبر كان قرارًا لوزير النقل بإعادة جميع موظفي شركة النقل البري إلى أعمالهم بعد أن تمت إحالة جميعهم إلى المعاش شباباً وكهولاً منذ فترة، أي بعد أن تدهورت المؤسسة ووصلت إلى حد الإفلاس..نعم، لقد توقفت المؤسسة عن العمل وتعرض أسطولها من الباصات العاملة إلى الخراب ولم يكن من حل مادام الفساد مصراً على التمادي والنهش في رأسمال الوطن إلا إحالة كل العاملين إلى التقاعد!! وهكذا أقول للشباب وقد بدأتُ حديثي عنهم إن من حقهم أن يعملوا ويديروا هذا الوطن فهو مستقبلهم، والساحات ليست موطنهم الجديد، بل أماكن العمل والإنتاج. الساحات ذات وجود مرحلي .. وعليهم اليوم أن ينتقلوا لمواجهة تعطيل القوانين في الوزارات والمصالح الحكومية الذي يجري بذرائع تخدم مصالح الأفراد لا الشعب ككل.. إذ لابد من أن تستكمل الثورة في المؤسسات التابعة للوزارات التي لم يحدث وزراؤها التغيير المطلوب .. فالفساد لايزال في كثير من المواقع وهناك من يقول إن الفساد ازداد سعيراً، وإن الثغرات المستحدثة من أجله تزداد كثرةً، وأنا اقترح على حكومتنا الموقرة أن تسلم مهام مكافحة الفساد لشباب الساحات، سواء مهام المكافحة في الهيئة المختصة أو في جهاز الرقابة والمحاسبة، لأن كثيراً من هؤلاء الشباب عايشوا مأساة الفساد والقهر وخرجوا عن صدق ومعاناة، ثم إن ماقدموا من تضحيات وما سفكت من دماء أمام أعينهم جعلتهم أكثر إصراراً على التغيير الحقيقي لا التغيير الشكلي الذي لم يقدم شيئاً من أجل تلك التضحيات.. نأمل أن نجد ذلك في قابل الأيام. [email protected]