تعز ؛ أحجية تناقضات ؛ راهبة مقدسة أصابتها اللعنة ؛ أم تأكل أطفالها ؛ مومس عذراء ، شحاذة ثرية ...جنة ملوثة بالمليشيات والقمامة والحذر..؛ هكذا بدا لي وجه المدينة بعد غياب ؛ وسائق المكروباص يكرر: أغلق الباب ؛ فحقائبك قد تغري أحد المسلحين، وقد نفقد حياتنا ؛ وأضاف بلا مبالاة :إنهم يحكمون المدينة الآن..! مدينة كتعز، العاصمة المقدسة العريقة لإله الحب والخصب(تاعوز).. الأصل فيها أن تكون كرنفالات حصاد ، وملتقيات عشق ، ومأوى للهاربين من الحرب والكراهية والجوع ؛ كانت كذلك دائماً حتى وجدت نفسها غارقة في ظواهر وافدة لا تنتمي إليها، شيوخ و قبائل وجنرالات ... حماة لثورة خرجت في الأصل ضد هذه الظواهر ؛ وكسرت حاجز الخوف ؛ ولا تحتاج لحماية..!
منذ البدء .. كانت تعز تجد نفسها - مرغمة أو ربما بشكل ساذج - في عمليات تبادل غير عادلة، كانت تصدر المثقفين وتستقبل العسكر، تصدر المدنية وتستقبل القبائل، تصدر المعلمين وتستقبل حمران العيون .. ومؤخراً صدرت الثورة السلمية ، واستقبلت حماة الثورة من القبائل والعسكر ، والعزاء أن كل الظواهر الوافدة تتلاشى وتذوب على صدر المدينة المترع بالحياة والحب والآخرين ..
بدأت الثورة من هنا؛ فجأة تمردت الأرصفة المثخنة على الصبر الرزين؛ وأعلن الوجع المثقف استقالته النهائية عن الصمت البليد؛ وانفجر الأنين المتراكم دفعة واحدة... كانت المدينة تلعق جراحها ؛ وتزف أفلاذ أكبادها إلى ساحات الحرية.. كانت تقدم أنبل ما فيها .. قبل أن تضعها الأيام على مفترق طرق .. بين أزهى الأحلام وأسوأ الكوابيس ..!
كأدونيس .. لا أؤمن بثورة تخرج من المساجد؛ والثورة اليمنية لم تخرج من المساجد؛ بل من الأرصفة والأزمات والمعاناة الواعية..؛ نعم .. بدأت الثورة من هنا؛ وانتهت بقدرة قادر إلى المساجد؛ وديوان الشيخ ؛ وثكنة العسكري..!!
كظاهرة حداثية .. كان على الثورة الشبابية المدنية السلمية ؛ أن تفرز قيادات شبابية ملائمة لخطابها الحداثي ، لكنها - على عكس ذلك - تمخضت عن القيادات والخطابات المعتقة التقليدية ؛ نفس الشيوخ والوعاظ ؛ والسياسيين.. نفس الوسائل والغايات القديمة .. المستهلكة الرديئة ؛ .. هكذا ترنّحت الثورة ؛ لأنها لم تتح للّاعبين الجدد إدارة لعبتهم الجديدة..!
الثورة.. ككل المصطلحات المدجّنة ؛ لم تعد تعني معناها الحرفي؛ مثلها مثل الشريعة التي باتت تعني المقاضاة في محاكم فاسدة؛ والناس هنا - وبدون كفر أو خيانة - يلعنون الشريعة ؛ كما يتوجسون ريبة من ثورة ؛ صارت تعني - حسب رأيهم – اسماً حركياً لأسوأ ظواهر ورموز النظام القديم..!
أيتها المدينة المنهكة بالمليشيات وأنبياء الحرب ..؛ لم يكن فيك شيء أكثر من الكتب والعشاق والمغنين ..؛ تحتاجين نبياً حزيناً كإرميا ليكتب مراثيك، ويندب رائحة الريحان ، ونكهة الملوج ؛ وطعم البلس والفرسك ، وألوان الفرح والحب .. بل تحتاجين رتلاً من الأنبياء ؛ لينقبوا عنك فيك ؛ ويكشفوا عن برد ثناياك من تحت ركام البارود ؛ ويفصلوا فيك بين معابر الحلم و(معابر) الرصاص ..!
في الأخير .. تعز ليست هوية مناطقية أو عرقية .. ؛ إنها - كمدن يمنية أخرى - مطحنة عملاقة لكل الهويات التي تندثر وتضمحل فيها .. لصالح هوية جديدة لها خصوصياتها ..لكنها تتسع للجميع .