بأي حال من الأحوال لا يمكن التقليل من نتائج اجتماعات المانحين التي عقدت مؤخراً في الرياض لجهة أنها أوفت بتقديم الحد الأدنى من المساعدات المادية لليمن، وذلك وفي إطار رعاية هذه الدول لمسار التسوية السياسية وفقاً للمبادرة الخليجية وآلياتها التنفيذية المزمنة. في الحقيقة فإن نجاح مؤتمر المانحين في الرياض قد ترك ارتياحاً شعبياً ورسمياً في الداخل اليمني، فضلاً عن كونه يمثل نجاحاً للقيادة السياسية والحكومة الانتقالية وكذلك للدول الشقيقة والصديقة لرعايتهم مسار التسوية، مُجنبين اليمن مخاطر الانزلاق في أتون حرب مدمرة، وبالتالي فإن حكومة الوفاق الوطني ومعها المانحون من الأشقاء والأصدقاء قد نجحوا في التأكيد على أن خيار التسوية هو الأنسب لليمن الذي قدم بذلك أنموذجاً يحتذى به على مستوى دول المنطقة خاصة وأن الأزمات ما تزال تتفاعل في بعض دول الربيع العربي، وكذلك فإن استعار الأزمة في سورية هي الأخرى تؤكد على صوابية الخيار اليمني في الانتقال السلمي السلس للسلطة. بالطبع هناك مخاطر محدقة بمسار التسوية الداخلية، تأتي في طليعتها تلك الأسباب المتعلقة بالأداء الحكومي القائم على الوفاق الوطني وضرورة توافر الإرادة وإخلاص النوايا وفي الاتجاه الذي يساهم في استكمال ملامح التسوية والبدء فوراً الدخول في الحوار الوطني الشامل وبمشاركة كافة الافرقاء من داخل وخارج الائتلاف الحكومي وبدون تحفظ، فضلاً عن انجاز ما تبقى من مضامين المبادرة الخليجية بكل تفصيلاتها المزمنة، ويأتي في طليعتها إصدار منظومة التشريعات الجديدة ذات الصلة بالانتخابات النيابية والمحلية وإعادة تشكيل قوام اللجنة العليا للانتخابات وكذلك إعادة هيكلة قوات الجيش والأمن .. بمعنى أن تنصهر إرادات كافة القوى على الساحة والعمل المشترك لتجاوز الراهن من المشكلات والتباين في الرؤى حيال استحقاقات المستقبل وتوحيد الطاقات وفي الوجهة التي تحقق التطلعات المنشودة وتنأى بنفسها عن استحضار الماضي فضلا عن التمسك بحبل الوفاق الوطني، باعتباره المخرج الوحيد لإنجاز مهام المرحلة بكل تشعباتها و تجلياتها ، والخروج من أسر التحديات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية الراهنة خاصة وأنه لا خيار أمام اليمنيين غير خوض غمار هذا التحدي أو الذهاب إلى أتون المجهول .. وهو أمر - من الطبيعي - أن يحرص جميع اليمنيين على تجاوزه وعدم الوقوع في حبائله ومخاطر هذا المجهول !! لقد تابعت – كغيري من المهتمين – الاتجاهات العامة لمحادثات المانحين في الرياض مؤخراً وعرفت أن رؤية الحكومة التي طرحتها أمام المانحين تتلخص في محاولة إنقاذ الوضع الراهن لتأمين مخارج التسوية حتى عام 2014م .. وإن كان هذا شيئاً طيباً ويتماشى مع أولوية اهتمامات الحكومة في الوقت الراهن بالنظر إلى الاحتياجات الملحة لإنعاش واستقرار الاقتصاد الوطني والتخفيف من أعباء مترتبات الأزمة التي عصفت بالبلاد منذ قرابة عام ونصف العام تقريباً ، إلا أنها – في مجمل الأحوال – لا تفي وكامل احتياجات التنمية المستدامة التي كانت أحد بواعث الأزمة ، وأحد عواملها الرئيسة التي تجعل من هذا البلد غير مستقر، تتفاعل فيه الأزمات فارضة اختلالات أمنية وصدامات مسلحة ، وكذلك شيوع ظواهر الإرهاب بكل مسمياته مما يجعل البلد في وضع يسهل اختراقه من أية أطراف إقليمية لتنفيذ مخططاتها السياسية الايديولوجية والمذهبية. إذن ماذا نحن فاعلون بعد أن اختتمت فعاليات مؤتمر الرياض ونستعد للمشاركة في مؤتمر «أصدقاء اليمن» في نيويورك وعما إذا كنا سنجيب عن التساؤل المُلح عن متطلبات التنمية المستدامة ؟ ماذا بمقدور الحكومة اليمنية والدول المانحة أن تفعله إزاء هذا الاستحقاق ؟ والى متى سيظل اليمن يدور في مربع البحث واللهث وراء المساعدات والمنح والقروض في الوقت الذي يمتلك فيه المقومات التي يمكن أن تجعله مجتمعاً منتجاً يعتمد على قدراته وإمكاناته الذاتية ، وتتيح له الظرف لأن يكون قوة متفاعلة مع محيطة الإقليمي والدولي ؟! باختصار يمكن القول: إن اليمن يحتاج إلى الاستقرار ، وهو ما تعمل عليه القيادة السياسية والحكومة في الوقت الراهن بكل اقتدار من خلال حشد الدعم والمساندة لإنجاح مسار التسوية السياسية .. أما الأمر الحيوي الآخر فهو ما تحتاجه اليمن من الطاقة والمتمثل في إقامة المشروعات الإستراتيجية والتي ستكون بمثابة امتحان حقيقي لقدرات هذا الإنسان في إبراز مكامن القوة التي يمتلكها. أما وقد تحدثنا عن الطاقة باعتبارها صمام أمان لمشروعات التنمية المستدامة التي يمكن أن تنقل اليمن من طور الفاقة إلى طور جديد من الإنتاجية والتقدم والرخاء فإن الحاجة ماسة إلى أن تبادر الحكومة بتقديم رؤيتها هذه إلى مؤتمر المانحين في نسخته الثانية المزمع انعقاده أواخر الشهر الجاري في نيويورك وأن تضمن رؤيتها هذه تلك المشاريع الإستراتيجية التي يمكنها أن تدير عجلة التنمية ومنها إقامة مشروع السكك الحديدية للقطارات تربط بين نقاط الثقل السكاني في الجمهورية اليمنية على امتداد شواطئ البحرين العربي والأحمر. إذ إن من شأن مشروع استراتيجي كهذا (تتوفر له مقومات النجاح بالدعم الإقليمي والدولي) أن يخلق حاله جديدة من الانتعاش والنهوض الشامل في البنية اليمنية باتجاه عملية الإنتاج وبمعزل عن تلك النقاشات البيزنطية التي تدور بين اليمنيين في الوقت الراهن ..وفضلاً عن ذلك سيكون لهذا المشروع تأثير مباشر في تحسين حياة السكان المحليين من خلال توفير وظائف عمل لعشرات الآلاف من العاطلين ، وكذلك التخفيف من أعباء المواصلات التي ستسهل عملية نقل البضائع والأفراد والثروات الطبيعية من المناطق النائية إلى محطات التجمعات البشرية الجديدة وفي الموانئ القريبة والممتدة عبر سواحل هذا الشريط الساحلي الذي يمتد لنحو 2600كم عبر هذه الشواطئ .. وأعتقد – بالمناسبة – أن ثمة دراسات في هذا الشأن سواءً على صعيد الطاقة أو النقل عبر السكك الحديدية يمكن الاستفادة منها وعرضها كمشروعات حيوية أمام المانحين في مؤتمر نيويورك باعتبارها رؤية وطنية متكاملة للتنمية المستدامة في هذا البلد ، وبمثل هذه الطفرة التنموية سيسهم اليمن برفد المنطقة بخيارات حضارية إضافية كونه جزءاً من منظومة دول شبه الجزيرة والخليج العربي ، وبما يعزز التكامل الاقتصادي والاجتماعي بين اليمن وهذه الدول . المطلوب فقط من المانحين وفي مقدمتهم الأشقاء أن يعلموننا اصطياد السمك لا أن يكتفوا بإعطائنا إحداها!!