لم يكن الحديث عن الديمقراطية المباشرة بمفهومه الفلسفي «حكم الشعب للشعب» موضوعياً، بل أستطيع القول بأن المعنى الحرفي لم يطبق في الحياة السياسية لا القديمة ولا المعاصرة على الإطلاق، ومهما كان عدد مكونات المجتمع قليلاً في فترات تاريخية قديمة إلا أن الديمقراطية المباشرة لم تطبق، فعند الحديث عن الديمقراطية المباشرة في الحضارة اليمنية القديمة كانت تحدث على مستوى القرى لاختيار ممثليها، وممثلو القرى يجتمعون لاختيار ممثلي العزل والقبائل، وممثلو العزل والقبائل يجتمعون لاختيار ممثلي أقاليم الدولة، وممثلو أقاليم الدولة يشكلون السلطة التشريعية التي تختار حكام البلاد وتضع الدساتير وتسن القوانين. أما في المجتمع اليوناني القديم الذي يرى بعض الباحثين أن الديمقراطية الأثينية هي المنبع الأول للديمقراطية المباشرة فإنني أرى أن ذلك الاعتقاد قد جافى الحقيقة؛ لأن الديمقراطية في اليونان القديمة لم تكتمل تحت المفهوم الحرفي لتعريف الديمقراطية ب «حكم الشعب للشعب»؛ لأنه لم يكن لجميع مكونات الشعب اليوناني الحق في المشاركة السياسية؛ فالمرأة التي تعد نصف المجتمع لا يحق لها المشاركة السياسية على الإطلاق ومثلها العبيد والتجار والجنود وغيرهم من مكونات المجتمع اليوناني، وكانت الديمقراطية اليونانية مقيدة بشروط الارستقراطية ذات المال والجاه والعراقة وغيرها من الشروط التي تحرم ثلاثة أرباع المجتمع من حق المشاركة السياسية والمواطنة اليونانية. إن الصورة التاريخية عن الديمقراطية اليونانية لم تكن حقيقية بالمعنى الحرفي لمفهوم «حكم الشعب بالشعب»، وكانت الحضارة اليمنية هي الأقرب للمفهوم الحرفي للديمقراطية المباشرة، حيث لم يستثن أحد من مفهوم المواطنة، فالجميع له حق المشاركة السياسية، وقد سجلت الكتب السماوية ذلك الفعل الإنساني، وجاء القرآن الكريم ليثبت ذلك في قول الله تعالى على لسان ملكة اليمن: «قالت يا أيها الملأ افتوني في أمري ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون» صدق الله العظيم، فما هو الملأ؟ وكم كان عدده؟ وكيف مورست الديمقراطية المباشرة في تلك المرحلة؟ ذلك ما سنتناوله في الأعداد القادمة بإذن الله.