قال لي أحد المواطنين: لقد كنت أثناء الأزمة رائداً في التحليل وتشخيص الوضع، وكنت تدرك حجم الأخطار التي تحيط بالوطن، كنت تتكلم عن خريف في الوقت الذي كان الآخرون يبشرون بربيع مزهر. وها نحن اليوم أمام تجريف للكفاءات الإدارية والمالية والخبرات السياسية، وأصبح الوطن مستسلماً لفصائل تفرض نفسها على فكر الناس وعقولهم وتحتكر فيهم دينهم. قلت له: إنني من أوائل الذين رفعوا شعار التغيير، ولكنني كنت أرى أنه لابد من التراكم لكي نخلق تحولات حقيقية، وتلك التحولات لا يمكن أن تتم ما لم نكن مجتمعاً مدنياً متحضراً، وإيجاد طبقة مثقفة مؤثرة. كنت أدرك أننا نمتلك طبقة من المثقفين والإعلاميين تزوّر الحقائق وتضلّل الرأي العام وتغذي العقول بقدر كبير من الخوف غير العقلاني من نظام علي عبدالله صالح، في الوقت الذي يغضّون الطرف فيه عن المشكلات الحقيقية الكبرى التي تواجه المجتمع؛ كمشكلة تنامي المناطقية والمذهبية وصعود موجة المشايخ الذين استحوذوا على السلطة والاقتصاد. لقد ذهب كثيرون من الأكاديميين إلى مقيل حميد الأحمر ممن يزيفون الحقائق ويلفقون أو يختلقون الأكاذيب التي من أهمها الأطروحة القائلة ب “أن حميد الاحمر رائد للدولة المدنية”، والأطروحة الأخرى هي الخوف من التوريث، واعتبار ذلك ارتداداً عن الثورة والجمهورية، ولعل الكثيرين يذهبون إلى أنني أتجنى على المثقف وأحمله فوق طاقته؛ فهو في النهاية بشر، وهو جزء من المنظومة الاجتماعية. صحيح أن قدرة المثقف ورؤيته ليست بالضرورة أن تكون خارقة، لكننا نقول: لابد أن تمكنه من تحديد الاختلالات في المجتمع، وتؤهله للخوض في الشئون العامة وتشخيصها بهدف إحداث التأثير والتغيير. لقد بات من المسلّم به أن دور المثقف في العقود الأخيرة حقيقة ذات تأثير بليغ في صياغة الرأي والوعي؛ بوصفه أحد أهم المحركين للمجتمع، فهو الذي يصنع وعي مجتمعه نحو آفاق الحرية والتقدم والتحرر من سلطة الاستبداد والتخلف، والمثقف اليمني كان ينقل المجتمع من سلطة أقل استبداداً إلى سلطة مستبدة بالمطلق. كان بإمكانه أن يقول الحقيقة ويكشف الكذب؛ فهو المعني بفضح أكاذيب السلطات سواء كانت السلطة السياسية أو الدينية أو حتى الاجتماعية، ويعمل على تحليل الأفعال بناء على أسبابها ودوافعها ونياتها الخفية. فالمثقف منوط به رفع مستوى الوعي بالحقائق وليس تزييف الواقع وتضليل الرأي العام والتلبيس على الناس، وهو ما يمارسه اليوم أولئك الذين قفزوا من سفينة علي عبدالله صالح بحجة الفساد، وهم اليوم أكثر فساداً تنتفض عليهم مؤسساتهم وهم يسوغون ويبررون للوضع القائم ويدافعون عن أطروحة الاستقرار الموهوم والأفضلية النسبية والتكريس لسياسات وأساليب ومفاهيم لم تعد ذات جدوى أو قيمة بدوافع ومصالح شخصية أو انتهازية. من المؤسف حقاً أن يقف الإعلام والإعلاميون حجرة عثرة أمام توق الشعب اليمني المتلمس لدرب الحرية والديمقراطية، وتحقيق قيم المحاسبة والمساءلة وتحقيق الإصلاحات الحقيقية. لقد تخلى هؤلاء الإعلاميون عن دورهم ومهمتهم الأساسية في نقد واقعهم وحاضرهم ومواجهة أزمات مجتمعهم ودفن كل ذلك تحت السطح، وليس مجرد الصمت أو التسويغ لما هو قائم، أو استغلال علي عبدالله صالح فزاعة، وها نحن اليوم ونتيجة لممارسة هؤلاء قد وصلنا إلى مرحلة الاحتقان السياسي الذي يفوق أي احتقان سياسي في أي بلد عربي آخر، حيث تراكم الإحباطات السياسية وشيوع الفساد وتواصل الاستبداد. إننا أمام رياح عاتية هبت على هذا الوطن وأحالت التغيير فيه إلى تصفية للحسابات وثأر سياسي انتقامي لا مبرر له. تبدو الضغوطات الخارجية على اليمن أكثر من أي بلد آخر؛ فاليمن مستهدفة من كل اتجاه، ولديها ملف عاجل في الجنوب وصعدة، ولا شك أن كل ذلك ينعكس على الأداء السياسي اليومي والرغبة في تكبيل حركة الدولة. نحتاج في الوقت الراهن إلى سلام اجتماعي وخلق ثقافة للتسامح من أجل تعزيز الرقي الاجتماعي وتمكين المرأة اليمنية من كامل حقوقها وعصرنة المجتمع اليمني من أجل استقراره وإقامة الدولة على أسس جديدة ووضع المواطنة أساساً لعلاقات الحكم والمجتمع. أخيراً يمكن القول: إننا لا نستطيع الخروج من ربقة العنف إلا بإحياء النزعة الإنسانية في ثقافتنا وسلوكنا اليومي التي جرى تغييبها لمصلحة فكر بشري مصاب بالتعالي والقداسة، ويؤمن بالنقل على حساب العقل، وتغليباً للتعصب على حساب التسامح، وانتصاراً للانغلاق على حساب الانفتاح. رابط المقال على الفيس بوك: http://www.facebook.com/photo.php?fbid=467938899911857&set=a.188622457843504.38279.100000872529833&type=1&theater