قتل وتجنيد واعتداء.. اللجنة الوطنية توثّق تعرض 5,700 طفلا لانتهاكات جسيمة    وزير الصحة يوجه برفع مستوى التأهب الوطني لمواجهة فيروس "ماربورغ"    سيدات الجيش المغربي يتوجن بلقب دوري الأبطال    فليك: يامال ورافينيا استعادا الجاهزية.. والحمى تبعد راشفورد    مصر تعتمد مركبة بديلة عن "التوك توك" في المناطق الشعبية    قائمة مرشحي الكرة الذهبية 2026 تكشف مفاجآت مبكرة    حديقة عدن مول تتحول إلى مساحة وعي... فعالية توعوية لكسر الصمت حول مرض الصرع    طائرة شباب القطن تحلق فوق سيئون وتتأهل إلى نهائي البطولة التنشيطية الثانية لأندية حضرموت الوادي والصحراء    بن بريك بين النزاهة ومستنقع السياسة: نصيحة من قلب بدوي شبواني    اسبوع مجاني لمرضى السكري بصنعاء    مركز عين الإنسانية يدين جريمة الجيش السعودي بحق المواطنين في صعدة    وزارة النفط: مرحلة سوداء صنعت الانهيار في الجنوب (وثيقة)    طنين الأذن واضطرابات النوم.. حلقة مفرغة يكشفها العلم    تسوية بلا شركاء: الانتقالي يكشف تناقض القوى اليمنية    انهيار داخلي يقترب.. تحقيقات ووثائق غربية تتوقع زوال إسرائيل خلال عقود    واشنطن تحذر الطيران المدني في أجواء فنزويلا    كاتب أمريكي: الهجمات الصاروخية اليمنية على منشآت بقيق كافية لعدم الوثوق بالإدارة الأمريكية    كم جنت أميركا من بيع مقاتلات إف-35 في العالم؟    إرث الزنداني والترابي.. عودة التكفير إلى الواجهة العربية    الترب :اليمن مع السلام ولا يمكن أن يكون لقمة سائغة في يد السعودي    8 شهداء وجرحى بنيران العدو السعودي في منبه بصعدة    الأنثى المبدعة بين التقييم الجنساني والانتقاد الذكوري .. المظاهر، والنتائج، والآفاق    مونديال الناشئين قطر2025 .. ايطاليا إلى المربع الذهبي    الدكتور عبدالله العليمي يزور منتدى باصره الثقافي ويشيد بمسيرته العلمية والسياسية    «ليالي الفنون الخالدة» تعيد الغناء بالفصحى    علماء آثار يعثرون على حجر شعار نبلاء عائلة "توت" السويدية    اكتشاف تابوت روماني محفوظ منذ 1700 عام    بترومسيلة تسلم قطاع نفطي في شبوة    متفوفا على مبابي وفينيسيوس.. "لامين" يحصد جائزة أفضل لاعب بإسبانيا    صحيفة امريكية: أوكرانيا عدّلت "بند الفساد" في خطة واشنطن للتسوية    استهداف دورية عسكرية بعبوة ناسفة في شبوة    الأوقاف والخطوط اليمنية توقعان اتفاقية لنقل أكثر من 6 آلاف حاج    أهم مفاتيح السعادة    تحطم مقاتلة هندية خلال عرض جوي بمعرض دبي للطيران    ميزان الخصومة    اتحاد المنسوجات يعلن استعداده توفير الملابس المحلية بجودة اعلى ومنع المستورد    مدير عام هيئة المواصفات يطّلع على سير العمل بفرع الهيئة بتعز مدير عام هيئة المواصفات يطّلع على سير العمل بفرع الهيئة بتعز    تغاريد حرة.. وحدي بلا رئيس    الأسعار في الجنوب ترتفع مجددًا رغم تحسن العملة وسط إجراءات حكومية لا تعكس واقع السوق    يمن شباب تدين لغة التحريض من سلطة تعز والنقابة تدعو لوقف الزج بالأجهزة الأمنية بقضايا نشر    الأصبحي: آلاف المرضى محرومون من العلاج بالخارج    الحياة تعود لميناء عدن: سفينة ثانية ترسو في ميناء المعلا    كم سيربح؟.. مقابلة ترامب تعزز ثروة كريستيانو رونالدو    ضبط قاتل بائع السمك في مدينة البيضاء    مينديش يعود لpsg الفرنسي    إحباط عملية تهريب مخدّرات وإيقاف المتورطين في منفذ الوديعة    قراءة تحليلية لنص "هروب وعودة" ل" أحمد سيف حاشد"    ثورة في علاج السكري: توصيل الأنسولين عبر الجلد دون حقن    أيهما أفضل: العمرة أم الصدقة؟    دراسة: سيجارتان يوميًا تضاعفان خطر فشل القلب والوفاة المبكرة    مصطفي حسان يطلق رواية أبناء الرماد.. تكشف خيبات الحرب وتعرّي الفساد    لوجه الله.. امنعوا الباصات وأعيدوا باصات النقل العامة    وزير الداخلية.. جابي ضرائب لا حامٍ للمواطن.. غرامة مالية متنقلة على ظهور الناس    اختتام جمعية المنتجين ومركز سند دورة في تمكين المرأة اقتصاديًا    (هي وهو) حين يتحرك النص بين لغتين ليستقر    صنعاء.. البنك المركزي يوقف التعامل مع شبكة تحويلات مالية وأربع منشآت صرافة    العلامة مفتاح يشيد بالمشاريع الكبيرة لهيئة الزكاة    يا حكومة الفنادق: إما اضبطوا الأسعار أو أعيدوا الصرف إلى 750    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بين الصوت.. وكاتم الصوت.. إما «حواراً» يخلق وطناً.. أو «بندقية» تصنع مقبرة ..
نشر في الجمهورية يوم 31 - 12 - 2012

بين الصوت وكاتم الصوت، بين الكلمة والبندقية، بين الحوار والحرب.. تتشكل الأوضاع السياسية، وتتبلور الخيارات والتوجهات المستقبلية، الصوت: حرية وحوار ، سلام ومدنية، رؤية وتفكير وتحضر .. وعلى النقيض تماماً من كل هذه الصفات النبيلة يأتي “كاتم الصوت” المشئوم، هذا المجرّد أعورٍ دجالٍ .. ينظر بعين واحدة، في اتجاه واحد، ولا يرى في هذا الاتجاه غير مصالحه النزقة، ولأن هذه البندقية “صمّاء”، لا تسمع.. تربكها الشفاه التي تبدو مريبة أو زوائد دودية لا جدوى منها، وبطبيعتها فالبندقية لا تفكر ولا تحاور، البندقية تقرر فقط، تتربص بالأحلام، وتملي شروطها ونزواتها على جميع الأطراف، بالقهر والغلبة..!!
«لماذا يسيل لعاب البنادق حين تطير الحمام..!!».
تبهرني هذه الومضة الشعرية المدهشة للشاعر الكبير “عبد الحكيم الفقيه”، فهي بجانب قيمتها الفنية العالية، تختزن بكثافة عالية مضمونها الفكري العميق، كما تختزل ببراعة تجارب مفصلية في تاريخ وطنٍ كان أحياناً يحلم أو يتأهب لنقلات حضارية جبارة، فيما كانت البندقية دائماً على أهبة الاستعداد، لاغتيال حلمه الجميل، في كل مرة كان فيها هذا الحلم على وشك التحقق..! حلم خصب يتخلق ذات نكسة فادحة ، وعلى إثر الوحدة اليمنية، كان حلم جنين يتخلق بملامح الحرية والمدنية، في طريقه إلى التحقق عبر مخاض يمكن تجاوز آلامه، يومها كان الصوت أعلى من البندقية، ليتسلل “كاتم الصوت” هذا من نافذة “سيارة هيلوكس” ويغتال، خلسة وبضربات سريعة غادرة، الظروف الملائمة لترعرع ذلك الحلم الذي وئد في المهد، ويعيد الأمور إلى نصابها، في هذا البلد المصاب بلعنة العنف الأزلي، حيث لا صوت فيه يعلو على صوت “كاتم الصوت”، فكانت تلك الاغتيالات الشهيرة من أبرز العوامل التي قوّضت الوحدة الوطنية، وأدت إلى الحرب الخاسرة، بما ترتب عنها من تداعيات كارثية ما زالت تمثل أخطر الأزمات التي تشهدها الحالة السياسية الراهنة..
واليوم، وعلى إثر الثورة، كان يتخلق وطن أجمل، على وهج صوت شبابي مدني سلمي.. بدا لوهلة أنه أعلى وأقوى من كل بنادق النظام وجنابي القبيلة، وأسلحة الميليشيات وأحزمة المجاهدين.. كانت معركة أسطورية بين حداثة التطبع، وعراقة الطبع، بين صوت الحلم وعنف الواقع.. وأياً كان الأمر ، فقد وصلنا بفعل عوامل كثيرة إلى خيار التطبيع والحوار، كمشروع لوطن مقترح تحكمه الأصوات، لا رائحة البارود.. فعاد “كاتم الصوت” على دراجة نارية هذه المرة، ليفرض منطقه على منطق الحوار، وينسف الضمانات الضرورية لحوار حقيقي متكافئ بين جميع الأطراف المتناحرة، للوصول إلى وطن يتسع للجميع .
لم تكن الأوضاع قبل حرب صيف 94م، أكثر تعقيداً أو خطورة من الأوضاع الراهنة، على مختلف الجوانب والمستويات، يومها كانت اللعبة معادلة ثنائية بسيطة بين نظامين شموليين.. ألجأتهما الضرورة إلى التعايش، فقررا فجأة تنحية البنادق وترك صوت الحرية يعلو ، على الأقل لفترة من الوقت، ففي ظل الحرية لا يمكن لطرف ازدراد الآخر، وما حدث أن الطبع غلب التطبع، فبدأ كاتم الصوت يوجه مسار الأحداث التي انتهت بازدراد أحد الطرفين للآخر على أنقاض صوت الحرية والمدنية.. حينها، أنتج صوت الحوار “وثيقة العهد والاتفاق” في مقابل أن “كاتم الصوت” فرض حرب صيف (94م)، بكل انعكاساتها وتبعاتها الباهظة.
وما يحدث الآن، أن المعادلة صارت أكثر تعقيداً ، وتعددت الأطراف المعلومة والمجهولة المتناحرة التي لم تستطع ازدراد بعضها، فألجأتها الضرورة إلى الحوار، لرسم ملامح مستقبل لا يمكن قبوله دون إتاحة المجال للجميع بالمشاركة في رسم هذه الملامح، فعاد كاتم الصوت ليوجه مسار اللعبة، وينسف حسن النوايا وتكافؤ التنازلات والمكاسب.. وبقية الشروط الضرورية لنجاح أي حوار حقيقي، ويبرهن للجميع، أن الجميع ذوو نوايا سيئة وشريرون ويتربصون بالجميع..
أما ما سيحدث، فلا مفر من خيارين، إما الصوت، وإما كاتم الصوت، إما حرية تخلق وطناً، أو بندقية تصنع مقبرة .. الخياران بنفس القوة والاحتمالية، وقد يقول متشائم: إن خيار البندقية أقرب، فكل الأنامل قادرة على ضغط الزناد .. لكنها ليست كلها قادرة على الكتابة.. وفي سياق العنف بإمكان أي بليد تافه أن يصفي عبقرية جبارة، ويقتل مستقبل وطن، كما فعل قاتل “جار الله عمر” الذي لم يكن الأول ولا الأخير من الأصوات الخلاقة التي أزاحتها كاتمات الصوت بدم بارد.. عن مسرح الحياة.. !
هكذا يبدو العنف أسهل وسائل تغيير مسار التاريخ.. بيد أن خيار الصوت والحوار قد يكون أقرب، وإن كان أصعب، تتوقف القضية بجانب عوامل خارجية وداخلية، على قدرة القوى المدنية التقدمية على تنظيم مكوناتها وقدراتها، وأجنداتها.. والوقوف عند مسئولياتها الحقيقية بشكل موحد وفاعل، وإقناع الشعب والقوى التقليدية بخيارها المدني، وصولاً إلى مشروع حياة يليق بالإنسان على مشارف الألفية الثالثة..
بيد أن انتصار الحوار ، لا يعني انتصار الحرية والديمقراطية والمدنية.. هذه القيم النبيلة لا يمكن لها أن تنتصر بقرارات وقوانين وتوافقات .. آنية معرضة دائماً للسقوط، هذه القيم لن تنتصر سوى بتحولها إلى حداثة فكرية وسلوكية راسخة بعمق في الوعي والسلوك الفردي والجمعي، للشعب، وباستراتيجيات ثقافية وتعليمية وإعلامية .. فاعلة وطويلة الأمد.. حينها سيختفي كاتم الصوت ، لا كأداة قتل، بل كظاهرة عنف وإرهاب باتت مرفوضة من قبل الجميع، الرجل الذي بات يتأول معنى القوامة، والمرأة التي أصبحت شريكة فعلية في الإدارة واتخاذ القرار، والطفل الذي تعلم في لثغاته الأولى ألفاظ الحب والسلام والحرية والتسامح .. والتلميذ الذي بات يقدر الجمال، ويتذوق الفن، ويردد بوعي كامل:
« لماذا يسيل لعاب البنادق حين تطير الحمام.. !! »
مثل هذه الومضة الشعرية الفذة، ليست حالياً شهيرة ولا مقررة على طلاب المدارس الذين يكادون جميعا، الفتوات بشكل خاص، يحفظون ويرددون بإعجاب بيتي أبي تمام في قصيدته الشهيرة:
السيف أصدق أنباء من الكتب
في حده الحد بين الجد واللعب
بيض الصفائح لاسود الصحائف في
متونهن جلاء الشك والريب
رغم فكرتها الهدامة، ضد صوت العلم ، والتمدن، لصالح العنف وكاتمات الصوت، في حين يعذر بعض المثقفين أبا تمام، الذي كان صوتاً حداثياً، دفعته لسعات الجوع إلى أن يداهن كاتم الصوت، بهذه القصيدة، كان أبو تمام عقلاً عملاقاً على جسد هزيل، ألجأته الحاجة إلى مدح الخليفة المعتصم، الذي كان على العكس: عقلاً هزيلاً على جسد عملاق، كان كتلة من العضلات ، ورغم كل المحاولات التي بذلها أبوه الرشيد من أجل تعليمه كان المعتصم أمياً جاهلاً، لا يعرف القراءة ولا الكتابة(خلواً من العلم)، وكان أبو تمام يعرف كيف يطرب الخليفة بمدح العاهات وذم الفضائل واستدرار الدراهم.. فأعطاه المعتصم عن كل بيت في القصيدة ألف درهم، وقيل إنه أقطعه مدينة الموصل..!
رابط المقال على الفيس بوك


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.