هيكلة مؤسستي الجيش والأمن كما نفهمها جميعًا تعني إعادة تنظيم وطني للوحدات العسكرية على أسس علمية حديثة, وما يتبادر إلى الذهن هو أن هناك بحسب هذا المفهوم نوعين من التنظيم: أحدهما تنظيم للبنية الخارجية والآخر للبنية الداخلية. القرارات الرئاسية الأخيرة كانت معنية برسم المعالم الكبرى لعملية الهيكلة لتتولى وزارة الدفاع مسؤولية التفاصيل, وعلى الرغم من ذلك أخذت هذه القرارات بالاعتبار جانبي التنظيم الخارجي والداخلي, وإن كان هذا بخطوط عريضة, فالبناء الخارجي نجده متمثلاً - على سبيل المثال - في تسمية هذه القرارات لمجالات القوة العسكرية (برية, بحرية, جوية, حرس حدود) وكذا إعادت توزيع القوات اليمنية في سبع مناطق عسكرية وإنشاء ألوية, ودمج أخرى تحت مسميات جديدة, وأما البناء الداخلي فنجده في بعض مواد هذه القرارات, وهي مواد منها ما حدد نوع المهام المرتبطة ببعض الألوية, ومنها ما انشغل بالميزانيات التشغيلية وحالة هذه الميزانية من حيث الاستقلال ودرجته, وقضايا أخرى ذات صلة. ونحن كمتابعين نرى أن وزارتي الدفاع والداخلية تشهدان في هذه الأيام نشاطًا دائبًا في إطار نوعين من الجهود, أحدهما تلك الجهود التي تعمل على ترجمة تلك القرارات إلى واقع متحقق, والآخر يتمثل بتلك الجهود التي تعمل على إعادة النظر في واقع البنية الهيكلية الداخلية والخارجية لبقية الوحدات الأمنية, ومثل ذلك ما صرح به وزير الداخلية مؤخرًا من أن شرطة النجدة سيجري هيكلتها وتوسيع مهامها, والأمر نفسه فيما يتعلق بالشرطة العسكرية, كما جاء في كلمة وزير الدفاع لدى حضوره الجلسة الختامية لمؤتمر قادة فروع الشرطة العسكرية. وكل ما يهمنا هو أن عملية الهيكلة التفصيلية لمختلف الأجهزة الأمنية والعسكرية لابد أن تشهد الوقوف على مختلف القضايا التي ظل فيها المقاتلون هم الطرف المهضوم ماديًا ومعنويًا. لا بد أن تشهد عملية الهيكلة وضع حد للفساد الذي ينخر في جسم مؤسستنا العسكرية والأمنية التي هي صمام أماننا واستقرارنا. لماذا دائمًا ما تكون القوى البشرية في هذه المؤسسة هي آخر ما ينظر إليه مع أنها عماد العمل الأمني والعسكري وعنوانه وقوته ومصدر ثباته ونجاحه؟ أين هي العدالة حين يكون وضع وحدة عسكرية أفضل من وحدة أخرى وهما في وطن واحد وتناط بهما مهام واحدة؟ ما الذي قدمته مواردنا الوطنية من شيء يُشعِر الأفراد والضباط وصف الضباط بقيمة الوطن سوى رواتب لا تكفي لإعاشة الفرد الواحد فكيف وهو يعول أسرة؟ هذا في حين تنفق الدولة المليارات المخصصة للجيش والأمن في أرصدة تذهب بطرق ملتوية إلى جيوب الفاسدين؟ هل كُتب على كثير من القوى البشرية في مؤسستنا الأمنية والعسكرية أن يظلوا في فقر وفاقة لينعم بالأموال المفسدون في هذه المؤسسة الذين لم يشعروا بالاكتفاء ولن يشعروا .. هل هذا هو الوطن الذي يضحي الإنسان بنفسه وبسعادته بين الأهل من أجله؟ يقولون: إننا في بلد فقير, نعم هو فقير, لكن انظروا إلى الأموال التي ينفقها هذا الوطن الفقير تحت بنود متعددة أقرب إلى أن تكون بنودًا ترفيهية, إن هذه الأموال لو تم تحريرها من أيدي المفسدين ووزعت في مجالات عادلة تستهدف المقاتلين والتطوير النوعي لمؤسستنا العسكرية لأصبح لدينا مؤسسة نموذجية تباري في التطور والإدارة مؤسسات عسكرية شقيقة. لماذا بنود الصرف الأخرى (الخاصة) تجد طريقًا سهلاً, بينما تغلق الطرق أمام ما له علاقة بالفرد المقاتل؟ ألا ينبغي أن توزع هذه الدولة فقرها على جميع العاملين فيها بالتساوي, أم أنها فقيرة عند أقوام وثرية عند أقوام آخرين؟ .. إن دولتنا في حقيقة الأمر تنفق ولا تبخل, ولكن المشكلة أن هذه الأموال تتجه لترضي أشخاصًا يُسمح لهم بالاستحواذ عليها والتصرف بها أو تقاسمها وكأننا في غابة ولسنا في دولة يحكمها دستور وأنظمة وقوانين؟ بالله عليكم هل نحن في دولة عظمى تدير العالم حين يكون لدينا جيش وهمي أو في حكم الاحتياط.. هل تعرفون أن دولتنا الموصوفة بالفقيرة تنفق ما يقارب 200 مليار على كشوفات وهمية, وهل تعلمون أن التجنيد اليوم أصبح الفساد فيه عرفًا يمشي عليه الجميع .. حيث يجري توظيف الآلاف ثم يتم تسريحهم على أن يستلم الفرد راتبه من البريد مخصومًا منه نصيب المسؤول الفلاني, ونصيب المسؤول عن المسؤول الفلاني؟ المقاتل اليمني صلب وقادر على تحقيق الإنجازات, وهو رقم صعب في المنطقة, ولكن السياسة الإدارية في مؤسستنا العسكرية تركز اهتمامها على تيئيسه وإضعافه, لأن الفساد المتوارث ينخر فيها. ألا تفكرون بأن الفرد الذي يعمل ضمن قوات حرس الحدود لا يكاد يصل إلى منزله وأولاده إلا وقد أنفق ما يعادل راتبًا أو راتبين؟ هل تعلمون أن ما تصرفه الجهات العليا للأفراد والضباط من متطلبات يتعرض قليله أو كثيره للاستحواذ ليتم بيعه في الأسواق؟ إن كل ذلك الفساد والتعتيم يجري تحت مبرر الهيبة العسكرية وخصوصيات الدولة, وهذا في الحقيقة فكر عقيم قد عفى عليه الزمن وتحررت منه كثير من أنظمة العالم .. الجيوش الإقليمية والدولية تعمل اليوم في إطار ميزانيات تشغيلية واضحة في ظل رقابة تضمن عدم تسرب المصروفات في غير محلها أو المبالغة في الأرقام مقابل أعمال صغيرة, ولذلك فإن هذه الجيوش تحرص على التطور والنوعية, بدءًا من الاهتمام بالفرد المقاتل (معيشته, سكنه, صحته, نفسيته), وانتهاءً بالجاهزية القتالية المتطورة متعددة المستويات. إننا اليوم في إطار فعالية وطنية منقطعة النظير, تتمثل بإعادة هيكلة الجيش وأجهزة الأمن على أسس وطنية وأسس علمية حديثة, وهي فرصة لتوجيه الجهود نحو استثمار ما يصرف من أموال في التطوير النوعي (فردًا وآليات وتدريبًا وعمليات وإدارة) بعد أن يتم اتخاذ التدابير التي تقطع دابر الفساد والمفسدين الذين يظنون أن الوحدات العسكرية ملكهم الخاص وأن الأفراد والضباط عمال لديهم, وليسوا خدمًا لهذا الوطن المنكوب بسياسات إدارية فاشلة تجوع الكل لا ليأكل الواحد فحسب, ولكن ليسرف في الأكل ويختزن ما يزيد عن حاجته أو يعبث به ذات اليمين وذات الشمال. وإنها لفرصة أن يجري اليوم في إطار عملية الهيكلة معالجة مظلومية كثير من منتسبي الجيش الأمن الذين يطالبون بالعدالة وتطبيق القانون فيما يتعلق بالترقيات والرتب العسكرية, فلا يستطيع أحد إنكار أن هذا الجانب لوثه الفساد والمحسوبيات, مثل لوث الفساد قضايا النقل من وحدة أمنية إلى أخرى أو من فرع إلى فرع في إطار الوحدة ذاتها, وكلنا يعلم أن هناك أناسًا خدموا وظلوا بانتظار الإنصاف والعدالة حتى تقاعدوا, والأمر نفسه في تهميش ذوي المؤهلات الذين جاءت ثورة الشباب لتعلي صوتهم بالمطالبة بالترقيات القانونية. إننا نشد على أيدي القائمين على الهيكلة أن يأخذوا بعين الاعتبار هذه القضايا وغيرها, لأننا نريد لمؤسستنا العسكرية أن تبدأ عهدًا جديدًا يسوده الإنصاف والمساءلة ما دامت الجهود تجري لإعادة هيكلة بنيتها الخارجية, فلا عصمة لأحد, والكل خدم لهذا الوطن, ولا تفاضل إلا بالإخلاص والنزاهة والتفاني في الأداء, ودمتم ودام الوطن شامخًا. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك