الحوار نعمة من نعم الله سبحانه وتعالى, وقد أكده سبحانه جلت قدرته في آيات مبثوثة في كتابه المجيد, وضرب لنا مثلاً في حواره عز وجل مع إبليس عليه اللعنة, وكذا في الحوارات التي جرت بين الأنبياء والرسل من جهة والطغاة والجبابرة والكافرين والمشركين من جهة أخرى, وظل الحوار جارياً وظاهرة لازمت الحياة الإنسانية بمراحلها المختلفة.. وبغض النظر عن نتائج الحوارات التي عرفها الإنسان, إلا أنها ظلت نافذة مهمة يطل من خلالها المتحاورون إلى مسرح الأحداث ويحددون أدوارهم عليها, سعياً ليكونوا فريق عمل واحد, يؤدي كل منهم دوره في مشهد أو مشاهد يتم التوافق عليها والاتفاق على طبيعة والية الانتقال إلى ترجمتها, وفي حالات الفشل تتحول النافذة إلى الانتقال إلى حلقات جديدة من الصراع وللدخول إلى المسرح ولكن بأدوار متناقضة يرفض كل من الأطراف الآخر, ويسعى إلى إخراجه من المشهد أو المشاهد بالقوة والحسم المستند على الاستبداد بالرأي, والادعاء بامتلاك الحقيقة. الدارس لتاريخ الحوار الإنساني في مختلف مراحله, وفي الأمكنة والأزمنة المختلفة, وبين القوى المختلفة بمسمياتها المختلفة التي ظهرت في مراحل التاريخ, يقف على أن كل ذلك الحوار جاء نتيجة لحاجة إنسانية لمعالجة أسباب الخلاف والاختلاف, لردم فجوات الشقاق والانشقاق, والوصول إلى صيغ تحقق التعايش, بغض النظر عن تقدير الأطراف لمعاني التعايش وكيفيته, ومواقع الأطراف فيه. والناظر في تاريخ الحوار في بلادنا يجد أنها من أكثر بلدان الدنيا تعاملاً مع الحوار, ولكنها من أقل بلدان الدنيا استفادة من الحوار ، لأسباب تتعلق بمنطلقات الحوار والغايات التي وقفت وراء الدعوة إليه. ولعل من أبرز تلك المنطلقات والغايات التي حالت دون تحقق التعايش والسلام الاجتماعي وتأسيس الدولة المدنية, دولة المؤسسات أن الحوارات لم تكن حوارات قضايا تتصل بالوطن ومتطلبات بناء الدولة, قدر اتصالها بالتصالح بين قوى متخاصمة مطلوب إنهاء التخاصم, بالدخول في تقاسم للمصالح والمغانم التي تركزت معظمها في تحويل الدولة من مؤسسات وقوانين ومصالح عليا, إلى ساحة مفتوحة لمصالح خاصة وإرضاء لأهواء ورغبات وتطلعات نخبوية لا ترتقي , ولا تمتد إلى معالجة أمراض الحاضر, للانتقال إلى مستقبل خالٍ من تلك الأمراض. لسنا هنا بحاجة إلى تتبع محطات الحوار, لأننا نعيش اليوم حديثاً عن حوار وطني جديد, للتأسيس لمرحلة جديدة من التصالح ومعالجة اختناقات الحاضر, التي هي اختناقات مرحلة من محطات حوار سابقة ، وكأننا في كل حواراتنا لم نصل إلى وصفة ناجعة تأتي على جذور الاختناقات والاختلالات والاختلافات, والملامح الناتجة عنها والمؤثرة في مسار الفعل السياسي والمدني والاجتماعي بمكوناته وتكويناته التي في كل محطة تبتعد عن الوصول إلى محطة الفعل المدني المفضي إلى بناء الدولة المدنية القائمة على النظام والقانون والمواطنة والشراكة الوطنية, وظلت أسيرة لمحطة التجاذبات والانجذاب إلى الماضي بخلفيته السلبية المملوءة بأمراض الثأر والانتقام والتخاصم والتخندق في خنادق متقابلة يقف المتخندقون وراء مصالحهم ولأجل تثبيت الأنا والذات, وكأنهم بذلك كانوا يحضرون في كل محطة حوار, لمحطة جديدة من الصراع للانتقال إلى محطة جديدة من الحوار وهكذا.. والسؤال : لماذا لم يصل اليمانيون في حواراتهم للتأسيس للدولة المدنية الحديثة؟ الجواب بكل بساطة أن محطات الحوار كانت تبدأ من نقطة نخبوية, وحوار الفئات والقوى, على قاعدة وجهات نظرهم في أسباب الخلاف بينهم, وليس لدراسة الأسباب التي تبعدهم عن بناء الدولة, باستثناء الحوار خلال أزمة الفترة الانتقالية في تسعينيات القرن الماضي الذي أفضى إلى وثيقة العهد والاتفاق وهي الوثيقة التي أسست فعلاً لرؤية متكاملة للدولة المدنية الحديثة بكل معانيها وأبعادها. هذه القاعدة التي ارتكزت عليها كل الحوارات, نراها ثانية قائمة في التحضير للحوار القادم, مع توسيع القاعدة الفئوية والنخبوية وكأن الحوار مطلوب لإرضاء فئات والتأكيد على حقها بعيداً عن الحق العام المتمثل ببناء الدولة, وبحيث يصبح الحوار مؤسساً لتصالح فئوي ولا يؤسس لمصالحة وطنية, يُغلّب فيها مصلحة الوطن ومتطلبات أمنه واستقراره والتنمية الشاملة والمستدامة فيه, وبما يضمن للأجيال حياة حرة وكريمة. من هنا نقول إننا بحاجة إلى حوار قضايا وليس حوار فئات ، حوار ينتصر للوطن وقضاياه المصيرية والمحورية التي ينبغي التركيز عليها ووضع الرؤى الكفيلة بانتقال البلاد إلى الدولة المأمولة التي قضى لأجلها أجيال وهم يحلمون بها وقدمت لأجلها أغلى التضحيات. وللذين يخططون للحوار نقول : اعتبروا من الأوضاع في العراق, وفي لبنان .. وغيرها من الدول التي تحولت من دول متماسكة إلى أوطان تمزقها الطوائف وتعبث بها الفئوية والنخبوية والطموحات النابعة من خنادق الاختلاف والتمحور. وعلينا أن ندرك جميعاً أن خصومتنا لا ينبغي أن تكون مع وطن فنسعى إلى تمزيقه, قدر ما تكون خصومتنا مع نظام سابق لم يؤسس للدولة المدنية, فنسعى إلى رسم ملامحها ومضامينها في الحوار الوطني الشامل المزمع عقده. نريد حواراً يؤسس لدولة اليمن الجديد الخالية من الفساد المالي والإداري والسياسي, ويحقق سيادة للقانون والمواطنة المتساوية والتوازن في الحقوق والواجبات والشراكة الوطنية بكل تجلياتها ومعانيها, نريد حواراً, يقول للمزاج في الإدارة وداعاً, ويقول لإدارة الثقة وداعاً, ولإدارة الإقصاء وداعاً, ولإدارة الخبرة والشلة وداعاً, ولإدارة صناعة الفراعنة وداعاً, ولإدارة التجميل وإخفاء الاختلالات وداعاً, ولإدارة الاعتماد على الإشاعة والتجسس وداعاً, ولإدارة لا تحترم المعلومة ولا تبنى قراراتها على الدراسة والبحث العلمي بمستويات القرار المتنوع وداعاً, ولإدارة تغّيب الرأي الآخر وداعاً.. باختصار نريد حواراً يؤسس لدولة مؤسسات تزول معها كل ما سبق ذكره من صور الممارسات.....؟! نريد حواراً يحقق التغيير على قاعدة العدالة, ولإرساء مداميك الدولة التنموية الهادفة إلى إشاعة السلام والاستقرار والتنمية والاستثمار الأمثل للموارد البشرية والطبيعية.. نريد حواراً جاداً يؤسس لدولة ، الجيش فيها للوطن والأمن فيها للوطن, والوظيفة العامة حق للمواطن, والقبيلة فيها مؤسسة اجتماعية خاضعة للقانون وبما لا يمنحها تمييزاً بأي صورة كانت في صناعة القرار بأي درجة أو مستوى. نريد حواراً يحقق التنمية المتوازنة, ويؤسس لرؤية موضوعية للتنمية الريفية والحضرية وبما يعيد للريف اليمني دوره في النهضة الزراعية بخاصة والمخزون الغذائي اليمني بعامة. إجمالاً نريد حواراً يخرج بوثيقة اليمن الجديد المتجاوز لكل علل الماضي وأمراضه, ولا نريد حواراً يقوّي الجماعات ويغذي التشظي بتوليد فئات جديدة, وتمزيق الجسد اليمني بذرائع هي أوهن من بيوت العنكبوت.. ونريده حواراً يرفع الظلم وينصف المظلومين, ويضع ضوابط تحول دون تكرارها عبر دستور يحفظ الحقوق ويبين الواجبات ويحقق الحماية لتلك والفرص المتكافئة لهذه ويجعل اليمن بلدة طيبة كما أرادها الله جلت قدرته, والله من وراء القصد رابط المقال على الفيس بوك