في جدلية القبيلة، والثورة : في تصريحه الشهير اعتبر “هيكل” أن الثورة اليمنية الأخيرة، عبارة عن قبيلة تريد أن تكون دولة، وهو مخطئ بالتأكيد، فلم تكن القبيلة اليمنية، خارج سياق الدولة لتحاول استعادتها من خلال الثورة، فطوال عقود الحكم الجمهوري، كان للقبيلة نصيب الأسد في صناعة المشهد السياسي، تؤكد على ذلك ليس فقط المذكرات السياسية لشيوخ القبائل، بل مصارع رؤساء وانقلابات كانت القبيلة التي شعرت بالخطر على نفوذها شريكة في صناعتها كل مرة.. أما لماذا حدثت الثورة، أو بتعبير أدق، لماذا تمت بهذا الشكل؟ فلأن الرئيس السابق بدأ خلال السنوات الأخيرة من عهده يؤسس جدياً نظاماً أسرياً هدد مصالح أركان تحالف النظام القديم،(القبيلة والعسكر ورجال الدين) فوفرت الثورة فرصة ذهبية لجدار يريد أن ينقض، أن يقيم نفسه من جديد، هكذا انضم كبار رموز النظام السابق، وأتباعهم إلى الثورة، ثم ضموها لاحقاً إليهم، وهكذا تم اختزال النظام السابق في الرئيس السابق، وشخصنة الثورة، وتحويل مجراها من ثورة على النظام، إلى ثورة على الرئيس، كما تم تسليح وعسكرة الثورة، وتحويلها من صراع بين شعب ونظام مستبد، إلى احتراب دموي بين أركان النظام الحاكم. وكما يبتر المرء أحد أطرافه، أو ينسلخ عن جلده، هكذا ترك القبيلي فجأةً سلاحه في البيت، وانخرط في المسيرات السلمية، بدا الأمر مشجعاً وخارقاً للعادة، تدفقت القبائل إلى الساحات، تردد بحماس شعارات، هي في الأساس ضد كينونتها، وسقط بعض الشهداء والجرحى، وحدثت الكثير من المآسي، وبدلاً من استيعاب حكمة “جار الله عمر”(الثورة السلمية تضحية من طرف واحد)، واعتبار الشهداء ضحايا ضرورية لثورة سلمية، فهمت القبائل الأمر وعالجته بطريقتها، فتحولت الساحات إلى غابات من الأسلحة، وفتحت باسم الثورة السلمية جبهات قتال في مناطق مختلفة، كانت مواجهة بين القبيلة والدولة الهشة، لا بين القبيلة والنظام، بما في ذلك من تفجير لأسس الثورة السلمية ذاتها، وحلم الدولة المدنية القوية. قد تكون العصافير ساذجة، لكن البندقية بلا ضمير، وما حدث أن بعض العصافير صفقت واحتمت ببعض البنادق، التي جرت الثورة بعيداً عن معركتها الحقيقية مع النظام، إلى معارك جانبية لا ناقة لها فيها ولا جمل، وبدراماتيكية غير مفهومة ولا مبررة، تم تهميش وإزاحة القيادات المدنية الحرة الشابة، لصالح القيادات العتيقة الملتزمة، تم استخدام الإقصاء بعنف في المنصات الثورية، كما تم ركل الناشطات المدنيات بالبيادات، في ساحة التغيير، لصالح المسيرات النسائية المنفصلة التي جسدت ثورتها القبلية من خلال “إحراق المقارم”، وتوقفت ساحات الثورة الشبابية عن التصعيد العفوي الحر.. لصالح المسيرات الموجهة من خلف الكواليس، وعندما توقفت الساحات الثورية المكبلة عن المبادرة، بادرت البنادق القبلية بحلحلة الوضع، وسرقة الأضواء.. البندقية فقط ، احتفت باليوم العالمي للموسيقى، في اليمن.! لقد «ذبحت الثورة يوم ذبحت الثيران» القبلية، في ساحات الحرية، بمناسبة فعل إرهابي لا يمت إلى الثورة بصلة.. فدخلت الثورة غرفة الإنعاش مع الرئيس “صالح” الذي سرعان ما شفي من جراحه، فيما لا يمكن شفاء الثورة من إصاباتها القاتلة من قِبل القبيلة والعسكر، الذين أغرقوا الثورة في مستنقع النظام القديم الذي ثارت عليه، واستلبوا الثورة أمام شماتة بقايا النظام، وحسرة بقايا الثورة. إِن الشيوخ إِذا ركبوا ثورة أفسدوها، وجعلوا أعِزة أهلِها أذِلة، وأياً كان الأمر، فقد تنفس نظام صالح الصعداء، وتأكد من طول أمده، فالشيء الذي لم يكن الرئيس السابق يفهمه، وأربكه بالفعل، كما أربك رؤساء آخرين رحلوا تباعاً في مصر وتونس، هو لغة الثورة الشبابية السلمية، واندفاع الصدور العارية، أما لغة القبيلة والعنف فكان الرئيس «عفاش» يفهمها جيداً، وهو الأبرع في لعبة الكر والفر والسلاح والعنف واللف والدوران والمناورات السياسية.. لقب “عفاش” بالذات، دليل عملي على نوعية الأدوات القبلية في الثورة.! كان (حنظلة) الشاب اليمني الثائر، يرصد بدهشة وغصة بالغة، ثورته الخلاقة وهي تفرغ بالتدريج من كل مضامينها الجوهرية، وكشفت الأيام أن الثورة الشبابية السلمية المدنية المبجلة، لم تعد ثورةً ولا شبابية ولا سلمية ولا مدنية ولا مبجلة.. كانت مجرد انقلاب روتيني أعاد توازن نظام متصدع، كان لابد من تقديم كبش فداء من أجل ترميمه وإعادة توازنه..! ... تحصيل حاصل : لفظ القبيلي والقبيلة، في السياقات السلبية الآنفة، لا يعني ذلك الرعوي البسيط المتصالح مع نفسه والآخرين، أو المغلوب على أمره، ولا التجمع السكاني المعتز بتماسكه، يعني فقط التابع العنصري مستلب الشخصية، وبعض المشائخ الذين يمتهنون السياسة بشكل انتهازي. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك