الحرب القبلية، كعادتها، تبدأ بحماقة، وتنتهي بهدنة، هذا الابتسار الخادع، يخفي الكثير من الأهوال، فبين البداية والنهاية كثير من المآسي والكوارث والدماء، أمهات شخْن قبل سن اليأس على لهيب الثكل، أرامل ذبل شبابهن على شواهد القبور، آباء تقربوا بأبنائهم في عمر الورد لآلهة الحرب، يتامى ساروا في جنازات آبائهم دون استيعاب لحجم الفاجعة.. شباب قبّلتهم البنادق قبل الشفاه التي حلموا بها، وصبايا دفنّ ربيع العمر في قبور فرسان أحلامهن.. جناة لم يدفعوا ضريبة نزواتهم النزقة، وضحايا لم يكونوا جناة في الحرب التي لا ناقة لهم فيها ولا جمل..! وعندما تتوقف الحرب لا يتوقف الوجع، الجروح تظل تنزف بحرقة، والقلوب تزداد احتقانا بالمرارة، والانتقام يستعد بغضب لجولة أخرى من إهدار الحياة، ينطفئ الرماد، وتظل الجذوة متقدة، وبجاهزية تامة للاشتعال مرة أخرى، أمام أي نسيم عابر، أو مبرر بسيط.. فالحرب القبلية لا تشترط أسبابا وجيهة، أو جليلة حتى تشتعل، لكنها تشترط غياب الدولة، وحضور الطيش والتسرع، وكماً هائلاً من الكراهية المتبادلة .. لتشتعل تحت أي مبرر، أي مبرر، مهما بدا تافها، كقشة تقصم ظهر البعير المنهك بالأثقال، الحرب القبلية لا تنقصها الدوافع، بل المبررات. ... في الألفية الأولى للميلاد: تمر وحليب ورهان خاسر: اندلعت أشهر الحروب القبلية في الجاهلية العربية، بحماقات هينة، واستمرت عقودا، وانطفأت بشلالات من الدماء، اشتعلت حرب البسوس بسبب ضرع ناقة، وحرب بعاثٍ بسبب حفنة تمر، وحرب داحس والغبراء بسبب غش في سباق خيول.! في الألفية الثانية: حرب (قطرة العسل): في سوقٍ عام، قبل ألف عام، سقطت قطرة عسل على الأرض، لحستها قطة، عضّها كلب، قتله صاحب القطة، فقتله صاحب الكلب، فثأر ابن صاحب القطة لأبيه، وقتل صاحب الكلب، واشتعلت الحرب بين قبيلة صاحب القطة، وقبيلة صاحب الكلب، وانتهت تداعيات قطرة العسل بحمامات دماء، وحرب ضروس قيل إنها أبادت القبيلتين..! في الألفية الثالثة: حرب “البرشام”، في شرعب السلام. في اختبار عام، وقع “برشام الغش” في يد زميل الطالب الذي أُرسل إليه البرشام، فضرب الطالب زميله، وسمع أبو الزميل صراخ ابنه، فقتل والد الطالب الذي ضرب ابنه، وهبت القبيلتان، قبيلة الطالب المقصود بالبرشام، وقبيلة الطالب الذي وصله البرشام خطأً.. مازالت الحرب دائرة على أشدّها بين القبيلتين، في مخلاف ناحية السلام، وباستثناء الطيران استخدمت في هذه الحرب القبلية، أنواع من الأسلحة المتوسطة والثقيلة.. والضحايا في تصاعد مستمر..! ... ليس استهانة بالأسباب، ف(معظم النار من مستصغر الشّررِ)، حادثة اغتيال دبلوماسي سببت حربا عالمية، بكل أبعادها ومآسيها الكارثية التي لم يكن من المستحيل تلافيها، في عالم متحضر، وبغض النظر عن المقارنة، أردت الإشارة إلى كنه القضية ومنبع الأزمة، وهو طبيعة العلاقة القائمة بين القبائل قبل الحرب، والتي كشفت عنها الحرب، فعلى عكس ما قد يبدو أحيانا، فالعلاقة بين القبائل متوترة مبدئيا، وقود الحرب جاهزة سلفا، ثقافة الفيد والثأر والتعالي .. تغذي نزعة الكراهية المسبقة باستمرار، والحرب الباردة تنتظر الاشتعال، وتجد في أول مشكلة حلا لتنفيس الطرفين عن كراهية عريقة متراكمة، وثقة عالية بالعنف، واستعداد دائم لممارسته، في ظل غياب طرف ثالث قادر على فرض نفسه، وتولي حل النزاعات . قد تتصالح القبائل مع الغزاة، لكنها لا تتصالح مع بعضها إلا لمصلحة عابرة، وقد تخضع للأجنبي، على مضض، لكنها لا تقبل الخضوع للدولة إلا كتكتيك مرحلي، وفي ظل غياب الدولة، لن تتوقف الحرب القبلية في اليمن عن سعارها الذي يبدو سرمديا، وكأن (100 عام من العزلة) منذ صلح دعّان(1911م)، وخمسين عاماً من عمر الجمهورية، لم تكن كافية لإقامة نظام مدني، وفرض سلطة الدولة وهيبتها وسيادتها على كل أراضي (الوطن)!! فترات مديدة في حساب العصر، من المؤسف أن تنتهي بانزواء سلطة الدولة، وبشكل باهت وهش، في عواصم بعض المحافظات.!! وكلما انكمشت سلطة الدولة، تمددت سلطات الجماعات المتناحرة، أو يأخذ الإنسان حقه بيده، سواء عاش في تغلب الجاهلية، أو سويسرا الحديثة، وفي عصر النياندتال أو الهومو سابينس، هذا واقع الإنسان ، أينما كان وفي أي زمان. بجانب غياب الدولة، هناك ثقافة قبلية مستعصية على التغيير، تلبست بالأديان، وأزالت الدول ولم تتغير، الجميع مروا من هنا دون أن يتركوا أثرا، خلال العقود القليلة الماضية فقط ، تغيّر العالم، تمدنت كهوف، وتحضرت غابات، وأنجز الإنسان ما يفوق انجازاته منذ بدأ يدب على قدمين، خارجاً من الغابة، لكننا لم نتغير خلال قرون مديدة، أصبح القبلي ماهرا في التعامل مع كيبورد توشيبا، وشاشة أيفون، ودواسات تويوتا.. لكنه لم يصبح شخصا مختلفا عن سلالته القبلية، وأسلافه الأعراب، لم تستطع أحدث أنواع الشامبو التغلغل تحت الجمجمة الحجرية المتخمة بالعزلة والتوحش، ولا الأزياء الأنيقة على حجب البدائية المتغلغلة في العقول والسلوكيات، غرباء عن العصر، عن أنفسنا، عن الآخرين.. عن الحياة.! تغيرت مظاهر الظواهر فقط، تراكمت قنوات الإعلام والمعلومات، دون أن تراكم حداثة موازية.. كثرت المدارس وضاع التعليم، انتشرت المحاكم وغابت العدالة، تطورت المستشفيات وتدهورت الصحة، وتكاثرت الصحف ليتدنى الوعي.. ولم نجد من الديمقراطية سوى صناديق الاقتراع.. لم يحدث تغيير جوهري، ولم يتغلغل التحديث إلى العمق، الأسلحة فقط تطورت وتجذرت بعمق في واقع ووعي القبيلة، لكن القبيلة هي القبيلة، وعلى محك التجربة تظهر حقيقة معادن الأشياء، والأشخاص.. وفيما يتعلق بحقيقتنا، ما زال خلاف، يفترض أن يكون عابرا، حول حفنة تمر، أو برشام غش، كافياً لإشعال حرب طاحنة، تأكل الحرث والنسل. ... (استدراك): (قيل) إن أجهزة الأمن اكتشفت أن “البرشام” إيّاه، كان يتضمن إجابات خاطئة، لأسئلة لم تطرح في الامتحان، وظلت الدولة تراقب الوضع عن كثب..! [email protected] رابط المقال على الفيس بوك