في ذكرى المولد النبوي الكريم (المختلف في تاريخه) نلمس ندبة في خطابنا الديني، حين يُتحدث عن النبي وكأنه ليس بشراً من بني جنسه، ونسجهم خيوط من الوهم حول مولده النوراني الغريب، وحياته التي رافقها جبريل في كل تفاصيلها الصغيرة منها والكبيرة بالتوجيه والإرشاد.. حتى وصل الحال عند بعضهم تقديم النبي إلهاً لا يخطئ مطلقاً.. ولن تجد من آثار بشريته حتى ما يتعلق بمخرجاته اليومية كالبول والنخامة وغيرها.. فقد جعلوا منها مادة للتبرك والشفاء. والنبي يقول: لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم!!.. ما نقوله ليس ادعاءً ولا مبالغة، انصتوا في ذكرى المولد للدروس والخطب والمواعظ والبرامج التلفزيونية، فلن تجدوا إلا ما قلناه، وهم يصنعون ذلك في غيبوبة قد تكون بريئة إلى حد ما.. نظراً لحب الناس للنبي الكريم وتعطشهم إلى المطلق، ما يمكن لمثل هذه الأفكار من التسلل إلى قناعاتهم، فالعاطفة غير عاقلة في كثير من الأحيان.. فالنبي الكريم لم يخلع ثوب البشرية عندما لبس ثوب النبوة، فهي بشرية في أزهى صورها التي لا تخلو من الخطأ. وعظمة النبي لا تظهر إلا بوجود مستلزمات البشرية من حزن وفرح وضعف وقوة وتعجل وصبر وخطأ وتوبة وغيرها من بشريته الكريمة، تجعل بوابة الاقتداء مشرعة، ولو قلنا غير ذلك فماذا أبقينا للأسوة أو الاقتداء؟!. وقد تنبه الكثير من الصحابة الكرام إلى مثل هذا التفريق بين بشريته ونبوته أو رسالته.. بين محمد البشر الذي يأكل مما يأكلون منه ويشرب ويلبس مما يشربون ويلبسون منه، ويمشي في الأسواق، وما يتبع ذلك من صخب السوق وجلبته كما هي حالتهم. ويبدي رأيه في شئون الدنيا فيستحسنون منها وقد يروا غير ذلك، كما في غزوة الأحزاب رأى النبي أن يعطي ثلث ثمار المدينة لليهود حتى يأمن جانبهم، لكن كثيراً من الصحابة لم يستسيغ مثل هذا الرأي؛ لأنهم يعلمون أنه يتحدث بلسان محمد البشري لا بلسان الوحي المعصوم.. وفي موقف آخر يشفع النبي لأحد الصحابة عند زوجته واسمها «بريرة» لعلها ترجع إليه بعد أن طلقها.. فتجيب النبي هل هذا وحي أوحاه الله إليك أم هي المشورة والنصيحة؟ فقال: بل هي المشورة والنصيحة، فالت: لا ارجع إليه. وفي هذه القصة - وهي مشهورة- ما يعزز تفريقهم ذاك. وفي غيرها من القصص الكثير، وقد ضربنا عنها خشية الإطالة. إن تقديس النبي وإخراجه عن حالته البشرية الواقعية إلى حالة مثالية مطلقة بمثابة تحول عن القرآن ومبادئه التي مازالت حاضرة بيننا، ومازالت إلى يوم الدين تؤكد على بشرية النبي.. النبي الذي لا يعلم الغيب، ولا يدري ما يفعل به ولا بقومه: {قلْ لا أملكُ لنفسي نَفعاً ولا ضرَّاً إلاَّ ما شاءَ الله ولو كنتُ أعلمُ الغيبَ لاستكثرتُ من الخيرِ وما مسَّنيَ السُّوءُ إن أنا إلاَّ نذيرٌ وبشيرٌ لقومٍ يؤمنون}. النبي الذي لا يحل له أن يحرم حتى لنفسه «يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك..». النبي الذي حذره ربه أن يكون محامياً عن الخائنين «ولا تكن للخائنين خصيماً» آل عمران. النبي الذي هُدي بعد الضلال «ووجدك ضالاً فهدى». النبي الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وتوعده إن ركن إلى المشركين بالعذاب الأليم «ولقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات» الإسراء. والنبي في هذا ليس بدعاً من الرسل، فكثير من الأنبياء الذين تحدث عنهم القرآن قد ألمح إلى كثير من بشريتهم وأخطائهم. فهذا آدم عليه السلام حال معصيته وأكله الشجرة «فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه»، وهذا نوح عليه السلام حال عاطفة الأبوة «إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ»، وهذا يوسف عليه السلام حال ضعفه البشري «وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ»، وهذا موسى حال غضبه «وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ»، وهذا يونس عندما نفد صبره على قومه «وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ»، وقوله تعالى: «فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم. لولا أن تداركه نعمة من ربه لنُبذ بالعراء وهو مذموم».. هذه سطور القرآن مليئة بتجارب الأنبياء التي تدعم من بشريتهم، ليجعل منهم أسوة ومنارة هدى للبشر، فليسوا فوق طاقة البشر وإمكانياتهم وإلا لأرسل للناس ملائكة، وعندها لن نجد ذلك التفاعل والتأسي. من بني جلدتنا من جعل من هذا المولد أداة لنشر العنصرية المقيتة، والتمذهب الضيق، الذي لو رجع النبي لأنكرهم ولأنكر نسبتهم إليه؛ لكونه لم يخلف بعده ذكوراً «ما كان محمد أبا أحد من رجالكم..». وأخيراً: يعلن القرآن عن موت النبي وتبقى الرسالة خالدة إلى يوم البعث، ولا يعني موت النبي موت الإسلام فليست الرسالة مرتبطة بشخص النبي. وهكذا يعلي القرآن مكانة المبادئ والقيم على الأفراد والشخوص «إنك ميت وإنهم ميتون»، وكما قالها أبو بكر رضي الله عنه: «من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت».