يفترض من الحراك أن يكون أقل تشدداً وأكثر حكمة الآن. بدلاً من مرض الزعامات، مطلوب أن تكون عدالة القضية الجنوبية هي الزعيمة الحقيقية لكل الزعماء المتناسلين من كل حدب وصوب. لذلك على الحراك أن يخوض الحوار الوطني بما يلبي عدالة قضيته بحيث لا يدع مجالاً للشك في عدم تحليه بالكفاءة أوالمسؤولية من خلال تضييعه المتوالي للفرص كما للصيغ السياسية الثاقبة. ففي النهاية إذا لم يتفق زعماء الجنوب - الحقيقيون لا الواهمون وما أكثرهم - مع مخرجات الحوار فإنه لا توجد قوة في الأرض بإمكانها أن تجبرهم على التخلي عن قضيتهم وحلولها العادلة واستمرار النضال من أجلها. إن مزيداً من الانشقاقات بين الحراكيين ليس في مصلحة هذه القضية على الإطلاق. بل يجب أن يمثل تواجد الحراك الجنوبي في مؤتمر الحوار إسهاماً رائعاً لحل القضية اليمنية برمتها كما أرى.! صحيح أن توقعات نجاح مؤتمر الحوار ضعيفة، إلا أن الأصح أنها ستكون أضعف في ظل عدم اصطفاف الحراكيين للدخول الفاعل فيه. وبظني أن الحراك في حال توحده سيجبر الجميع على الامتثال لرؤاه طبعاً. ثم لاشك أن مطلب فك الارتباط لن يلاقي صدى إقليمياً ودولياً كما ينبغي خصوصاً ونحن في مرحلة اضطرابات ليس للمغامرات فيها نصيب كما يقول واقع الحال. الحال أن المشاكل التي تواجه هذا البلد تبدو عصية جداً للأسف. كما لا يمكن حلها في ظل انقسامات أو في ظل تنصلات من شأنها فقط التصميم على عدم تخلق المستقبل اللائق ليمن حر ديمقراطي موحد. كذلك فإن أي نوع من التفرقة بين أبناء المحافظات الجنوبية سيشجع على ما هو أسوأ وليس على ما هو أفضل بالنسبة لليمنيين جميعاً. غير أن عدوة اليمنيين في المقام الأول هي المركزية الاستحواذية، إضافة إلى الفساد الذي جعل حكم صالح أشبه بثقافة وطنية ملزمة، ومن هنا فإننا نخشى على القضية الجنوبية من مغبة رفض قادتها المشاركة الفعالة في مؤتمر الحوار لتصحيح الأخطاء التي تراكمت؛ لأننا نؤمن أنهم الضمانة الوحيدة لحل القضية الجنوبية ولازدهار اليمن عموماً. ثم إن من أنهكوا اليمن والجنوب بالذات - في حال خلو ملعب الحوار من المؤثرين الجنوبيين - سيتمكنون تماماً من احتكار المستقبل، ما يعني ضرورة عدم ترك الساحة لهم والاكتفاء بالتشكي أو التبكي فقط. فضلاً عن أن التاريخ لن يرحم أصحاب الحسابات الأنانية الضيقة أو العصبوية. وعلى الجنوبيين التحدث مباشرة أمام الشعب والعالم شارحين موقفهم كاملاً من الداخل لا من الخارج. إنهم أصحاب قضية قوية وسيجدون التفافاً كبيراً حولهم بالتأكيد. لكن عليهم فرض إرادتهم بطرق سياسية ناجعة لا بطرق الضجيج التي لا تجدي. لعل أهم عائق أمام اليمنيين الآن يتمثل في إعادة بناء الوحدة على نحو عادل، نتجنب معه كل المآزق التي وقعت فيها وفقاً لذلك الشكل الوحدوي السلبي الذي عرفناه. والشاهد أن الوحدة لن تتجدد كما يجب إلا بشكل سياسي إيجابي خلاق يجعل الجنوب شريكاً مهماً لا مجرد تابع بلا قيمة، شريكاً مصاناً لا عرضة لاستحواذات المنتصرين. غير أن التبعات السياسية حيال عدم المشاركة الجنوبية المعتبرة في مؤتمر الحوار تبدو مضارها أكثر من منافعها على المدى المنظور، ما يعني أن على زعماء الجنوب الراجحين إظهار كفاءة سياسية في التعامل مع الوقائع الجديدة؛ لأن الفرص الكبيرة لا تتاح مرتين. في حقيقة الأمر إنني أتفهم تحفظ أبناء المحافظات الجنوبية الحذر من هذا المؤتمر، ومعهم الحق نظراً لعرقوبيات الشمال التي نعرف. إلا أن اللحظة لم تعد تحتمل مزيد تسويف ومماطلة. ويبدو صحيحاً أن الكلام شيء والفعل شيء آخر. إلا أن اللحظة لا تحتمل مواقف متطرفة جامدة..لاشك. فحتى لو قاتل الجنوب سيكون أعزل بلا تعاطف دولي، وسيخسر الحراك سلمية كفاحه لصالح العنف الذي سيزيد من الطين بلة. وحتى لو حافظ الشمال على حماقاته بكفاءة المكر المعهودة عنه سيخسر قناعه الأخير حتماً. ذلك أن الحق أولاً وأخيراً مع الجنوب. ثم مع استمرار الانكشاف الضاري للشمال حياله، ستتمكن القضية الجنوبية حينها من انتزاع مباركة دولية ربما ستفضل الانفصال بدلاً من استمرار كل هذا العبث!. والثابت أنني أرى مشاركة الحراك بكفاءة مثلى في الحوار الوطني؛ كونها تمثل في الأساس دعماً استراتيجياً للقضية الجنوبية نفسها على عكس ما يراه حراكيو اليوم، ما يعني أن على الحراك حالياً أن يكون عقلانياً مسلحاً ببعد النظر لا بالانفعالات. ولقد كان يفترض أن تعطيه أحداث المعاناة الجسيمة التي مر بها ولايزال مروراً بعدم الاعتراف بالقضية الجنوبية منظاراً عميقاً واضح الرؤية للإدراك وللتحدي. بل لعلنا نتفق في أن انتزاع الحقوق لا يأتي عن طريق الصدفة أبداً أو الاكتفاء بالتحشيد فقط لأعلام جمهورية اليمن الشعبية. المقصد أن على الجنوب نيل الاحترام الوطني والدولي الموضوعي، رغم كل التهميش والاضطهاد عبر إظهاره نية الأمل على الأقل؛ لأنه وحده حسب ثقتنا من سيكسب كل الجولات السياسية لصالحه.! ذلك أن الفراغ الذي سيتركه غياب التمثيل الجنوبي السليم في مؤتمر الحوار سيحمل تبعات تاريخية عليه أكثر من غيره من وجهة نظري. وبالمقابل يبدو ملحاً على زعماء الجنوب التطور وفق خطوطهم الخاصة لخدمة قضيتهم محلياً ودولياً. أي أن عليهم تعبئة الطاقات بالمعنويات غير المهزوزة؛ لأن ثبات القضية الجنوبية أكبر من يخدمها، لا فوضى الزعماء التي صارت أكبر من يعمل ضدها كما هو حاصل. يعد مؤتمر الحوار المنقذ الأخير للقضية الجنوبية بصفته الاختبار الأهم لمهارات الحراكيين السياسية ونضج وعيهم باللحظة. كما يعد الاختبار الحقيقي لصفاء الذهن النضالي للحراكيين وتصميمهم على السلمية وعلى السياسة أيضاً وعلى المتاحات المدعومة دولياً. فمن غير المعقول أن قضية جليلة كالقضية الجنوبية يمثلها من يعملون على وضعها في الظل أو في الطاولة غير الصحيحة. نعم.. من غير المعقول أن يمثلها حماسيون عشوائيون مشوشون أو مغشوشون بلا براعات ولا تكتيكات، مكتفين بزعيق الانفصال الذي لا يجدي، بينما أزمات الناس تتفاقم، وبهذا يحققون الهزيمة لقضيتهم لا الانتصار المنشود. وهكذا.. بدلاً من إيصال هؤلاء للقضية الجنوبية إلى أقصى الحدود الحيوية الممكنة يكتفون بإنعاش الدهماوية القائمة على استغلالهم للاستياء الاجتماعي من أجل اكتساب نفوذ سياسي ضحل، ظاهره فيه الرحمة وباطنه فيه المزايدات. ثم بدلاً من إفساحهم المجال للعقلانية السياسية التي ستشجع العالم على وضع حلول منطقية للقضية إلا أنهم يستمرون في إذكاء اللاعقلانية السياسية بحيث لا يطرحون حلولاً فعلية لآلام الناس بقدر ما يفضلون الصراعات والمشاحنات فيما بينهم من ناحية، والاكتفاء بشتم الشمال من ناحية أخرى، حتى انفرط الأمر إلى محض عنصرية مقيتة لم تكن ضمن محمولات جوهر القضية الجنوبية أبداً. إن هذه النوعية المأزومة من القيادات هي التي لم تراكم المكاسب التي حازتها القضية الجنوبية ذات التعاطف الكبير، وقد فرطت بكثير فرص نخشى أن يكون أهمها مؤتمر الحوار. كما أن هذه النوعية المأزومة من القيادات هي التي تحبط الناس، و لن يعترف بها العالم؛ لأنها بلا رؤية موضوعية للمستقبل. في السياق صارت هذه النوعية المأزومة من القيادات أشبه بفريق محامين متدربين يتلهون بقضية الجنوبيين الكبرى – القضية الوطنية الأولى - بحيث يحصلون وهم في الخارج على منتهى الرفاهية النضالية، في الوقت الذي يزداد فيه تعب الناس في الداخل وتعرضهم للخذلان أكثر، ووحدهم البسطاء من يدفعون بلا فائدة ضريبة نزق ومزاج ادعاءات هؤلاء الذين يترفعون عن الواقع وعدم مسؤوليتهم، إضافة إلى ركاكة وغثاء منطقهم أمام العالم، رغم كل التضحيات التي قدمتها القضية الجنوبية العظيمة على مدى عقدين. رابط المقال على الفيس بوك