“الشرق الفنان” عنوان كتاب رائع للدكتور زكي نجيب محمود، ورغم حجمه الصغير إلا انه عظيم الفائدة والجمال، يلخص فيه مؤلفه جغرافية الفكر والذوق البشري، والفرق بين أهل الشرق والغرب في نظرة كل منهما إلى الدين والجمال، وكيف يفكرون. فهو يقول في مقدمة الكتاب : “ إن في العالم طرفين مختلفين من حيث النظرة إلى الوجود، طرف منهما يتمثل في الشرق الأقصى: الهند والصين وما جاورهما، ويتمثل الآخر في الغرب : أوربا وأمريكا، وبين الطرفين وسط يجمع بين طابعيهما: هو الشرق الأوسط . فأما الشرق الأقصى فطابعه الأصيل العميق هو النظر إلى الوجود الخارجي ببصيرة تنفذ خلال الظواهر البادية للحس إلى حيث الجوهر الباطن، فيدرك ذلك الجوهر بحدس مباشر يمزج ذاته في ذاته مزجا تفنى معه فردية الفرد أتصبح قطرة من الخضم الكوني العظيم، وهي نظرة معتمدة على اللمسة الذاتية المباشرة لا تحتاج إلى تعليل وتحليل ومقدمات ونتائج، فإدراك حقيقة الوجود بما يشبه التذوق، وهو ما يميز الفنان في نظره إلى الأشياء، ونحن اذا أخذنا الفن بمعناه الواسع شمل فيما يشمله تصوف المتصوف وخشوع المتدين، لأن هذه كلها جوانب لوقفة واحدة، هي وقفة من يدرك العالم بروحه لا بعقله. وأما الغرب فطابعه الأصيل العميق هو النظر إلى الوجود الخارجي بعقل منطقي تحليلي يقف عند الظواهر مشاهدا قوانينها الاستدلالية وينتزع النتائج الصحيحة من مقدماتها الصحيحة ، وتلك هي نظرة العلم . “ وهذه التفرقة التي تجعل من الشرقي فنانا يدرك الحقيقة بذوقه ومن الغربي عالما يدرك الحقائق بالمشاهدة والتجربة والتحليل والتعليل ، لا تنفي بطبيعة الحال أن يكون في الشرق علماء ولا أن يكون في الغرب رجال فن ودين ، ولكننا نطلق القول على وجه التعميم الواسع”. تلك هي الفكرة الرئيسة التي بسطها الكاتب في مقدمة كتابه ليلخص فكرته ، ومن آراء المؤلف في هذا الكتاب : “ أن عبقرية أهل الشرق هي في التفاتهم إلى الوجود من حيث هو حقيقة تمارس بالخبرة الذاتية، لا من حيث هو شيء يوصف وتوضع له القوانين النظرية”، ويضيف المؤلف قائلا : “ وهذه التفرقة التي تجعل من الشرقي فناناً يدرك الحقيقة بذوقه، ومن الغربي عالماً يدرك الحقائق بالمشاهدة والتجربة والتحليل والتعليل، لا تنفي بطبيعة الحال أن يكون في الشرق علماء، ولا أن يكون في الغرب رجال فن ودين”، بيد انه يصعب تصنيف الشعوب بناء على هذا الرأي فالعلم والفن ليسا حكرا على شعب معين وكذا العقل والوجدان هما ملك للجميع وتتفاوت الشعوب والمجتمعات في الاعتماد عليهما في عملية الإدراك ، وفي بناء حضاراتها، ولكن من الممكن- كما رأى المؤلف أيضاً - أن يغلب صفة منها على الأخرى في تحديد نمط حضارة معينة ، بناء على أي منها .العلم أو الفن أو الأخلاق . بقدر تفضيلاتها القيمية . ونظرا لأن اللذة الوجدانية هي جوهر إدراك الجمال، فالتذوق الجمالي استعداد فطري يتمتع به كل إنسان بدرجات متفاوتة، “ كما أن الظاهرة الجمالية إنما تشير إلى فعل التذوق أو التلذذ، كما هو الشأن بالنسبة إلى الطهي مثلاً، فإن فعل التذوق إنما هو ذلك الذي يقوم به المستهلك حينما يستمتع بلذة تناول ذلك الطعام” ، فاللذة الجمالية الوجدانية هي أساس الإدراك الجمالي، ذلك أن التأثير الجمالي يقتحم القلوب ويهز المشاعر، دون تفسير موضوعي حسي، أو سبب معياري لذلك التأثير الجمالي . زكي نجيب محمود : الشرق الفنان: ص 5 جون ديوي : الفن خبرة ، ترجمة : زكريا إبراهيم، مراجعة: زكي نجيب محمود، القاهرة دار النهضة العربية ، ص 83 رابط المقال على الفيس بوك