ما إن اقتربت الطائرة من مدينة عدن، حتى انصرفت عن المسافر الذي كان بجانبي، وأدرت وجهي نحو النافذة، لأجول ببصري ووجداني في جمال وتفرّد مدينة من المدن التي أعشقها، واتفرغ لذكريات لا تنسى على المستوى السياسي والأدبي والاجتماعي. لاحظ المسافر الذي كان بجانبي ما طرأ علي -وهو من أبناء عدن كما عرفت من لهجته- فسألني: هل تعرف عدن؟ أجبته: نعم، ومنذ سبعينيات القرن الماضي.. قال: هل كنت تسكنها؟ قلت: كنت أحد المترددين عليها منذ نشأ اتحاد الأدباء والكُتاب اليمنيين الذي ولد موحداً ومنع التشطير من أن يصل إلى البنية الثقافية لليمن، كنا نأتي ونتجاوز الحواجز السياسية والأمنية الرهيبة ببطائقنا الشخصية وكشوفات أسمائنا التي يبعث بها الاتحاد -عبر أجهزة استخبارات الشطرين- إلى المنافذ البرية والجوية بين الشطرين، وكذلك كان يفعل زملاؤنا من جنوب الوطن وشرقه، كانت اجتماعات المجلس التنفيذي والأمانة العامة للاتحاد كل ستة أشهر، مرة في صنعاء ومرة في عدن، وعندما كنا نقيم مهرجانات أدبية سياسية في سيئون أو الحوطة كمهرجان باكثير ومهرجان القمندان كنا نعقد اجتماعاتنا هناك على هامش المهرجانات.. وما أن انهيت حديثي معه عن علاقتي بعدن وغيرها من مدن ما كان يُسمى بالشطر الجنوبي من الوطن.. حتى قرأت في نظرته إليّ الشيء الكثير وأطلق من صدره زفرة مشبوبه بالحزن، وقال: وينك يازمن الأخوّة.. عرفت كل ما تحمله وتختز له هذه الجملة التي لم انسها ولن يفارقني الصوت الحزين الذي حملها، وهنا اتساءل: ما الذي جعلنا نتحسر على زمن الأخوّة، وان كنت اعرف كما يعرف غيري الكثير من العوامل والأسباب التي أدت إلى ما حصل.. وما تساؤلي هنا إلاّ بمثابة التذكير الذي ينفع وليس الذي يضر، كوننا في مرحلة تدعونا للاتجاه نحو ما ينفع.. وإذا ما وقفنا -وقفة عجلى- أمام القضية الجنوبية -الحاضرة في مؤتمر الحوار الوطني- لوجدنا أن من غير المنطقي حصرها في موضوع المبعدين والمُقاعدين قسرياً، والأراضي المستولى عليها بالنهب والتحايل والهبات المستفزة.. نستطيع القول: أن كل ذي طبيعة إنسانية، يعرف ماذا يعني إبعاد وحرمان المرء عن عمله بالإقصاء أو التقاعد التعسفي، ما أثر ووقع ذلك عليه نفسياً ومعيشياً واجتماعياً، كما يعرف كل ذي دراية بالطبيعة الإنسانية وتكوينها، ماذا يعني استفزاز الناس -وفي مقدمتهم سوادهم الفقير والمحدود والمنظور الدخل- بالثراء غير المشروع المجسد لمقولة الإمام علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه “ما جاع فقير إلاّ بما متع به غني” والامتيازات المستفزة المتمثلة في مقولة أخرى للإمام علي مفادها “ ما ظهرت من نعمة إلاّ ووراءها حق مسلوب”. ان استغلال السلطة والمنافع المتبادلة في إرضاء نهم الثراء الفاحش بالطرق غير المشروعة، وفي الحصول على الامتيازات المستفزة، لها أثرها البالغ الذي قد يؤدي إلى تدمير مجتمعات، ولها سلبياتها التي لا تحصى خاصة عندما تطرأ على مجتمع لم يعتد عليها، أو في بداية تأسيس دولة أو مرحلة جديدة في نظام الحكم.. وهذا ما حدث شيء منه لإخوتنا في جنوب الوطن الذين فوجئوا بممارسات لم يعتادوا عليها، وصدموا بما كانوا يؤملونه من التوحيد السياسي لوطنهم في دولة واحدة. ان الاستهانة بنفسيات الشعوب في تلك الأمور وأمثالها أمر له عواقبه الوخيمة على الدول والشعوب، لما تولّده من مشاعر غبن وأحقاد وضغائن وتذمّر.. الخ. وفي تاريخنا اليمني وحتى لا نذهب بعيداً، نشير إلى بعض الشواهد ومنها، كيف تنبّه الإمام يحيى حميد الدين لهذا الأمر وهو يؤسس الدولة بعد رحيل الأتراك، وكيف منع أعوانه ومستوزريه من الظهور بمظهر التميز على عامة الناس حتى في الملبس واقتناء الجنابي الثمينة.. حتى فسّر ذلك أنه حسد منه وغيره.. وهذا أيضاً ما تنبّه له الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي.. الذي لم تغفل عيناه عن ممارسات وسلوكيات من معه من كبار رجالات الدولة الذين منعهم حتى من استخدام سياراتهم الحكومية في غير الدوام الرسمي، حتى لا يستفزوا الناس وهي تحمل نساءهم إلى جلسات النساء، أو بعبث أبنائهم بتلك السيارات الحكومية.. وكيف ظل إبراهيم في منزله السابق ذي الدور الواحد إلى أن بنى له الشيخ زايد بن سلطان -كما سمعت- دوراً ثانياً وبعض المرافق.. الرئيس الشهيد سالم ربيع علي يعرف معاصروه أيضاً سلوكه الشعبي الذي سنّه على قيادات الحزب والدولة الذين ظلوا متمسكين بها إلى ما بعد تحقيق الوحدة اليمنية، وأشهد أني كنت حين أزور عدن وأذهب للمقيل في شقة الدكتور سالم بكير أو العشاء لدى الأستاذ راشد محمد ثابت وغيرهما من الوزراء أو أعضاء المكتب السياسي كنت لا أجد فرقاً بين العمارات والشقق التي يسكنونها حتى في الحاجة إلى الترميم. هذه بعض الأمثلة على أهمية مراعات نفسيات الشعوب، وتحاشي ما يولّد الحساسيات والكراهيات ومساوئ الامتيازات بنفوذ ووجاهة السلطة.. وإذا ما كانت مشاكل الأراضي أو الاقطاعيات وممارسات الاستغلال للسلطة وامتيازاتها قد ولّدت ما ولّدت في مشاعر الناس في جنوب الوطن كما ولّدتها في شماله، فإن هذا ما يجعلنا نرجح أن القضية الجنوبية وضياع زمن الأخوّة لا تنحصر عواملها على ما ذكرناه، كون سلبياتها في الجنوب كما هي في الشمال، بل هناك عوامل أخرى بحاجة إلى وقفة تأملية ومنها ما يعود إلى امتيازات ونفوذ وممارسات الإخلال بالنظم والقوانين المنظمة لحياة الناس وعلاقاتهم ببعضهم وبالدولة، وكذلك اختلال المساواة أمام القانون في الحقوق والواجبات.. وغير ذلك من العوامل التي لا يمكن تجاهلها.. حتى لا نغفل معالجتها والوقفة الجادة أمامها في مؤتمر الحوار الوطني. رابط المقال على الفيس بوك