في ديوانه “صناعة الانقاض” يتأسى الشاعر محمد مهدي حميدة بمعادلات دلالية تتموْضَع في صوره المنثورة، لتعكس جوانيات الأنا المرهقة بشقاء الرؤية، ومحنة النظر، وها هي الشواهد تتوالى منذ بحثه الاستحالي عن “بهجة واحدة لم تسقط من عليائها”، تلك المعلقة في أغصان شجرة يافعة، تحيط بها طيور جارحة .. تنهش في تلك التمائم، ليقتصر دور الشاهد على “جمع الريش الملون المتساقط” من علياء المِثال. وفي تنويعة أُخرى بعنوان “السفينة” تتقاطع الصور لتشمل الطبيعة بتمامها، كما لو أنه يمنح الجزئي الطابع الكلي، ويرى الجوهري الطبيعي في عين الصور المنفردة المتناثرة.. مايذكرني بروحية “الهايكو” اليابانية النابعة من فلسفة الوجود التي تميز علاقة الهايكيين بالطبيعة، وهي فلسفة متصوفة بالمعنى الوجودي الفردي، و“ترى الجمع في عين الفرق”، مع استبعاد إجرائي لميتافيزيقا الروح الصوفية “العربسلامية” التي لسنا هنا بصدد تمييز الفوارق بينها وبين بوذية “الشنتو” اليابانية. يختصر الشاعر مفهوم السعادة الأبدية بالتحليق حول العوالم، التي تتكرر كلازمة ضابطة لموسيقى النص بعنوان “سعادة أبدية”، وأعتقد أن هذا النص الدائري يباشر التلميح لِما هو كائن موضوعياً، وهو فيما يؤكد على كروية الأرض، يضعنا أمام التقلبات والتحولات العارمة التي تجعل الثابت الأرضي المعروف، رديف المُتغير السرمدي العاصف، مما نشهده في تلك الصور المتخمة بالمفارقات والغرائب. نصوص محمد حميدة الشعرية تُقرأ من خلال التذاهن الصافي، فكل عنوان يحمل في دواخله تلك الرؤى والأفكار التي يستقيها من حقيقة الوجود، فالثابت/ المتغير، سمة حاسمة في قصيدة “صخور” التي نستقي منها “ديالكتيك” العلاقة بين الثابت الدائم، والمُتغير العابر، فلا ثبات البتَّة، فكل شيء متحول وإن بدا ثابتاً، وكل صخرة تنبئ عن غيوب لا نراها بعين العقل والبرهان، بل بعين التأمل والإدراك. فتلك الصخرة تبدو طوداً راسخاً أو جبلاً جامداً، لكن المسافة بين قمته وقاعدته مترعة بالحياة والتحولات والتراجيديا النابشة لمحارق جوفه المليء بالإرادة، وإن ظهر أمامنا ساكناً هامداً. . وللحديث تتمة أخيرة يوم غد. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك