يُعدُّ صندوق الاقتراع هو الآلية الدستورية المتعارف عليها والمعمول بها في الدول الديمقراطية لوصول الأفراد أو الأحزاب والتنظيمات السياسية إلى سدّة الحكم أو خروجها إلى دائرة المعارضة، لكن ما حدث مؤخراً في مصر الشقيقة، وما يمكن أن يحدث تبعاً لذلك في بقية دول الربيع العربي من اللجوء إلى الشارع لإلغاء ما أفرزته صناديق الانتخابات من نتائج, والوصول إلى الحكم من قبل بعض الأفراد والقوى السياسية, يجعلنا نتساءل: هل نحن اليوم أمام ديمقراطية عربية فريدة ذات آلية جديدة لتداول السلطة تعتمد على حشد الجماهير واللجوء إلى الشارع بدلاً من آلية الصندوق والانتخابات..؟!. وإذا بدأنا اليوم في رفض نتائج الصندوق إجمالاً؛ فهذا يعني أننا نرفض إجمالاً الديمقراطية, لأننا كيف نحقق الديمقراطية إذا كنّا لا نحترم نتائج الصندوق، وإذا جاء الصندوق بما لا يعجب طرفاً من الأطراف السياسية؛ سيلجأ مرة أخرى إلىالشارع؛ لأننا لم نتفق على أن الصندوق هو الفيصل في كل نزاعاتنا, وأصبحنا إما مرجعيتين لحسم خلافاتنا، واما استعراض قوى الشارع أو الممارسة الديمقراطية السلمية من خلال صندوق الاقتراع. لقد أشرت في مقالة سابقة أننا كمجتمعات عربية مازلنا إلى اليوم نفتقد إلى ثقافة الديمقراطية والقبول بالآخر، وما حدث في مصر وما يمكن أن يحدث في أي من الدول الديمقراطية العربية هو – من وجهة نظري – نتاج طبيعي لافتقارنا إلى ثقافة الديمقراطية والثقة المتبادلة أو القبول بالآخر كشريك في بناء الدولة، فالتوافق والثقة المتعارف عليها في العالم الديمقراطي المعاصر تأخذ شكل القبول المنطقي بنتائج العملية الديمقراطية وما أفرزته صناديق الاقتراع, وخصوصاً إذا كانت ذات أغلبية ساحقة؛ والانتظار حتى موعد الانتخابات التالية، ولكن ما يحصل اليوم من عدم قبول بنتائج الانتخابات في سياق بعض الديمقراطيات العربية الناشئة سببه غياب أو ضعف ترسخ ثقافة الاختلاف والقبول بالآخر في المجتمع، وعدم تكريس مؤسسات مدنية فاعلة، وعدم شمولية الإصلاحات الديمقراطية الجديدة, حيث يستمر الوضع متأزماً حتى تتدهور المؤسسات الوطنية الواحدة تلو الأخرى (الخدمات العامة - المصانع - المصالح التجارية - المؤسسات التعليمية - المؤسسات الأمنية الوطنية). فالصراع الحقيقي الجاري حالياً في بعض الديمقراطيات العربية الناشئة يحدث بين متنافسين سياسيين يسعون إلى النفوذ السياسي العارم، ويكرهون الطرف الآخر، ويتمنّون القضاء عليه بأية وسيلة، هذا على الأقل ما يستطلعه المراقب المحايد، وليس بالضرورة أنهم سيحرصون كثيراً على تكريس العملية الديمقراطية في مجتمعاتهم, فما يهم بعض الديمقراطيين العرب الجدد هو بقاؤهم وحدهم في الساحة المحلية؛ يحلّون ويربطون ويشكّلون مجتمعهم المتعدّد الرؤى؛ وتحويله إلى نسخة مطابقة لتوجهاتهم الحزبية فقط؛ فكلا الطرفين الفائز بالأغلبية والخاسر يسعيان إلى هزيمة غرمائهما, مهما كلّف ذلك من دمار سياسي واجتماعي واقتصادي للمجتمع الوطني، وبالطبع ثمة أسباب فردية واجتماعية سلوكية تفسّر هذه الظاهرة الديمقراطية العربية الفريدة، وهي ضعف ثقافة قبول الاختلاف والتعدّدية وعدم تكرُّس مشروعية الرأي والرأي الآخر في الذهن الجمعي الوطني، فالديمقراطية الحقيقية تتطلّب وجود أفراد وأعضاء مجتمع وسياسيين وناشطين سياسيين يقبلون بأريحية مناسبة النتائج الديمقراطية مهما كانت, بدلاً من تسارعهم في دفع مجتمعاتهم ودولهم الوطنية إلى حافة الانهيار, وفي هذه الحالة سيخسر الجميع. وهناك من يرى أن «الربيع العربي» أتى ب«ديموقراطية عرجاء» ميدانها الشارع وساحاتها وسائل إعلامية غير محايدة، وأدواتها نُخبٌ سياسية لا تتحلى بأية ديمقراطية، وكان يمكن للربيع العربي أن يكون “جميلاً” لو وقفنا عند حدود ما جئنا به من ديمقراطية، ورضينا بما جاءت به صناديق الاقتراع، وعملنا على إزالة ما لا نريد عبر “الصناديق” القادمة؛ لا عبر “الشوارع” وحرق الإطارات وتأليب الناس؛ وبذلك فإن الربيع العربي انحرف عن مساره وتداخل مع “الخريف العربي” وأصبحنا لا نفرّق بينهما إلا حسب رغباتنا وأهوائنا..!. ومن هذا المنطلق علينا كشعوب وحكام وتنظيمات وقوى سياسية عربية أن ندرك جيداً اليوم أن الديمقراطية ثقافة وحضارة وتراث وليست ثوباً تلبسه الشعوب في عشية وضحاها، ولا شراع سفينة ينشره الربان حينما يبحر ثم يلمّه ويطويه حينما يرسو، الديمقراطية بناء ضخم في أركان المجتمع وحيثياته وتكوينه، وبناؤه مرهون بعمق أساسه وثباته وصلابة أرضيته، كي لا يهتز عند المصائب والمحن فيحدث التصدُّع ويحصل الانهيار، الديمقراطية في فحواها تهدف إلى إغلاق أبواب التسلُّط في وجه المغامرين السياسيين عندما يرومون سرقة القيادة ويزجون بشعوبهم في محنة المطبّات السياسية والعسكرية والاجتماعية والاقتصادية، فمآسي العالم من حروب وفتن واضطرابات قد حصلت في أغلب الأحيان بعد تولّي أمور البلدان وشؤونها رجال سلطة متطرفون ومتفردون بقراراتهم وإراداتهم وتصرفاتهم، كما أن انتقال نظام الحكم في بلد ما من شتاء دكتاتورية قارس إلى ربيع ديمقراطية زاهٍ بالورود والأقحوان يجب ألاّ يكون انتقالاً حاداً، سريعاً وغير مدروس. إن فضاء الانتقالية بين الحالتين يجب أن يملأ بفكر ثقافة الديمقراطية وتعلم ماهيتها وأسسها وأخلاقها وفحواها، وهذا لا يتم إلا بالانتقال التدريجي المدروس والمبرمج من نظام القمع الدكتاتوري إلى نظام اختيار المحكوم للحاكم، ففي هذه الفترة الانتقالية يجب بث روح ونفس وفكر الديمقراطية في قلوب ونفوس وعقول الناس، لكي يعلم المواطن ماذا يريد وإلى من يجب أن يعطي صوته وينتخب؛ إذ أن انتقال تفكير المواطن بدرجة حادة بين فكر الولاء المطلق لدكتاتور زمنه الأوحد إلى زحمة الأحزاب والبرامج والأفكار والشخصيات المختلفة كفيل بأن يجعل الناخب يتخبّط ويضيع في محنة الاختيار. كما أن الديمقراطية لا تعلن على شاشات التلفاز أو موجات المذياع في الصباح كالبيان «رقم واحد» الذي كان يعلنه الانقلابيون عند انقلابهم، الديمقراطية مبادئ وأسس، وأهم أسس الديمقراطية هو التثقيف الديمقراطي أو ثقافة الديمقراطية، ومن دون هذه الثقافة لا نصل إلى الغرض المنشود من وراء هذه العملية، ولكي تكون ثقافة الديمقراطية ناجحة ومنتجة وحيوية يجب أن تسبق وتزوّد بالثقافة العامة المستندة على أصول الحضارة والمدنية، فديمقراطية الثقافة هي أساس ثقافة الديمقراطية، وإن أردنا للديمقراطية أن تنجح وأن تنشأ وتنمو وتستقر؛ فعلينا أن نزرع بذور ديمقراطية الثقافة، فالفرد البسيط الذي لا يحمل ثقافة عامة متمدّنة وحضارية لا يستطيع أن يدرك ويعي معنى الديمقراطية وأهدافها، وسوف يسيء ويخطئ في عملية الاختيار. وختاماً يمكن القول إن الديمقراطية غاية كل الشعوب؛ لكن حين توضع في كل موضع، وحين نأخذ بعضها ونترك بعضها حسب رغباتنا؛ فإنها تفارق أهميتها، وتغدو وسيلة ذوي العصبة وذوي المال للوصول إلى غاياتهم ومصالحهم على ظهور الشعوب. رابط المقال على الفيس بوك