في السياسة عندما تعجز لغة الحوار تتكلم لغة السلاح. ذلك ما يطرح علينا تساؤل الفاجعة الكبرى، هل عجزنا عن إنتاج مشروعنا السياسي بعد كل هذه العقود من الصراعات والنكبات؟ إن هذا يدل على عدم المقدرة على فصل الصراع السياسي عن دور السلاح والمؤسسة العسكرية في حسم هذا الخلاف، وكأننا أمم لا تجيد سوى عمليات قتل نفسها تحت أكثر من حجة ومبرر. من يراقب أحوال معظم الدول العربية يشاهد المدرعات وهي تتحرك في الشوارع، وهذا دليل على أن العمل السياسي المدني لم يوجد بعد حتى في بعض دول الربيع العربي والتي دخلت في أزمة صراع على السلطة وكأنها تعود إلى مربع صناعة القهر السياسي وأصبح الموت لعبة من يجيد خلخلة الأوضاع. فهل دخلنا مرحلة قتل بعضنا البعض تحت شعار تأسيس المجتمع الديمقراطي وكيف لشعوب تتناحر كل يوم أن تنتج وعياً حضارياً في العمل السياسي؟ إن عودة المدرعة إلى الساحة دليل على أن لغة السلاح سوف تظل هي الفيصل في حسم الأمور، ومسألة قيام المجتمع المدني ما هي إلا من أوراق لعبة الأطراف التي تملك مؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية. وحتى أحزاب المعارضة التي وجدت نفسها في ساحة التغيير أو في قيادة بعض البلدان لم تقدر حتى الآن على تجاوز هذه الثنائية، المتصارع، السلاح، والسياسة، فالشارع هو أسرع مكان تتحرك فيه المدرعة وإصابة الهدف فيه الأقرب لأن المعركة تكون بين الناس، والرصاص في المناطق السكنية أكثر قدرة على القتل والإصابة من معارك الجبال والصحراء، وكذلك الطرف المعارض إن حمل السلاح فهو يقاتل في نفس الساحة، وكأن هذه الشعوب تحولت إلى وحوش لا تعيش إلا على دماء بعضها. اليوم نرى مصر وكيف تحول حلم الدولة المدنية إلى صراع يدخل فيه السلاح في كل خطوة تذهب إليها الأطراف المتصارعة، والمدرعة هي من يفرض النظام، الرصاص هو من يكسر الطرف الآخر، ويظل الدم المصري هو الثمن الذي يدفع لحسابات سياسية مازالت معادلاتها تحسب وتضرب في لعبة اقحام مصر في حرب أهلية وصراع ليس فيه النصر لطرف، بل إن ذهب الكل نحو قوة السلاح سوف نجد مصر في مأزق السودان والصومال والعراق وعندها سوف يعجز حتى السلاح عن صنع النصر لطرف لأن الحروب الأهلية لغة تدمير لكل من يراهن على الانتصار فيها. من خلال ما يجري في مصر وغيرها من دول الأزمات والصراعات في المنطقة تقدم لنا صورة عن عجز وفشل كل الشعارات التي رفعت من أجل قيام الدولة المدنية، فحتى الشعوب مازالت ترهن العمل السياسي في دائرة الحزبية والمناطقية والمذهبية والقبلية، وتتحول طموحات الشعوب إلى مقاصد متصارعة تخدم أغراض من يلعب على مشاعر الناس، فالسياسة هنا ليست فن قيادة المجتمع نحو المدنية، بل تحصر في قوة السلاح على قتل أكبر قدر من المعارضة، وطالما ظل صوت السلاح هو الأعلى سوف تتساقط كل محاولات العودة إلى مربع الحوار، فالشعوب التي تدخل دائرة العنف يصبح من الصعب عليها ترك السلاح، لأن مناظر القتل اليومي تعزز في النفس رغبة الانتقام وتصفية الحسابات. دون شك تدرك القيادات التي وصلت إلى الحكم في بعض دول الربيع العربي بأنها تمر في أزمات قاتلة، فالتغيير السياسي لا يعني إسقاط نظام، ولكن الأصعب من هذا تأسيس الدولة المدنية، وكيف للدولة المدنية أن تتحقق طالما المدرعة عادت إلى الشارع لتعود صورة القمع السياسي والعسكري من جديد، وكأن رحلة الدم والموت التي قطعها المواطن الذي خرج إلى الشارع مطالباً بسقوط دولة القهر، أدخلته في محنة جديدة من صراع السياسة والسلاح، فالسياسة قد غابت عن المجتمع، ليظل السلاح هو سيد الموقف عند الدولة والمعارضة الكل يسعى لمزيد من القمع حتى يفرض وجوده على الساحة، وكم هو مزعج أن تتحول الساحة من مساحة لتطوير الفعل الديمقراطي، إلى أرض للخراب غارقة بطوفان الدم والأجساد الممزقة وأوجاع الجرحى، عندما تتحول الساحة إلى محرقة نكون قد وصلنا إلى درجة الصفر من الإفلاس. كما يبدو من خلال هذا التصاعد للصراع وعودة المدرعة إلى الساحة بأننا أمام مراحل من الأزمات، وما بدأ بالدم ينتهي بالدم، سوف نمر بصراعات لا تعرف الرحمة وعلى هذه الشعوب أن تدرك أن السياسة ليست في تغيير النظام فقط، بل العمل السياسي ذاته ومدى الوعي الحضاري عند من يصل إلى كرسي الحكم، فاليوم ليس مثل الأمس والغد كذلك وكلما استمرت المراهنة على قوة السلاح في العمل السياسي سوف تحصد الشعوب المزيد من الخراب والدمار، ويظل المواطن المقهور عبر كل المراحل هو من يدفع الثمن جرياً خلف أحلام الكرامة والرخاء والعزة، ومن يقرأ المشهد السياسي لدينا سوف يقول: “هذه شعوب محكوم عليها بالضياع” وطالما ظلت المدرعة في الساحة تحمي ديمقراطية المنتصر، يظل الموت هو عنوان العمل السياسي القادم. رابط المقال على الفيس بوك