فى البداية اود الاشارة الى أن «العقول» التى أقصدها بالهجرة في عنوان هذه المقالة هي الكفاءات المبدعة والمتميزة من العنصر البشري في مختلف المجالات العلمية والبحثية التي تؤثر بشكل مباشر وكبير في مختلف جوانب التقدم والتنمية للدولة والتي تترك وطنها الاصلي وتهاجر للعمل والعيش في بلدان خارجية . وما دفعنى للكتابة في هذا الموضوع هو خبر تداولته العديد من المصادر والشبكات الاخبارية والإعلامية اليمنية نهاية الاسبوع الماضي مفاده أن تقريراً رسمياً قد قدر خسارة اليمن نحو 5 مليارات ريال سنوياً نتيجة هجرة الكفاءات وذوي الاختصاصات العلمية والنادرة. ووفقا للتقرير فإن العشرات من الخريجين وأصحاب الكفاءات يغادرون اليمن سنوياً للبحث عن العمل وتطوير المهارات. وتشير إحصاءات التقرير إلى أن نحو 30 ألف شخص من حملة المؤهلات الجامعية وحملة الشهادات العليا والمعاهد المتوسطة يعملون في دول الجوار وبعض الدول الأخرى، كما أن القطاع الصحي يعاني نقصاً كبيراً في الكادر الطبي، في الوقت الذي يفضل فيه الأطباء اليمنيون العمل في دول الجوار لتحسين مستوى دخلهم. والحقيقة ان هجرة العقول المتميزة ظاهرة عالمية وليست مقصورة على العلماء والباحثين العرب فقط، فهناك هجرة للعقول المتميزة من الهند وباكستان والصين واليابان وبعض الدول الافريقية ولكن اتجاهها دائماً من الدول النامية إلى الدول الصناعية الكبرى مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا وبالأخص الولاياتالمتحدةالامريكية وكل ذلك جاء نتاج عدة أمور منها: - 1.أن الدول النامية لا تميز في كثير من الاحيان بين المتميز وغيره حيث توجد الانظمة الجامدة التي تعامل الجميع بنفس المقياس ولا تعطي للمتميز ما يشجعه على مزيد من البذل والعطاء ناهيك عن ان مجال العمل والبحث والتطوير محدود أمامه مما يجعله بين خيارين إما الاستكانة والقبول بالأمر الواقع وهذا الاسلوب راح ضحيته آلاف من العلماء المتميزين ويذهب ضحيته اعداد هائلة في وقتنا الحاضر والخيار الثاني هو قبول العروض المغرية التي تقدمها المراكز العلمية في الغرب لكل متميز مبدع والتي تتمثل بالمال والجاه وكثير من المميزات التي لا يحلم بها في وطنه الأم. 2.من أهم الأسباب أيضاً الاحباط الذي يصيب عادة هؤلاء العلماء والمتميزين وينتج عادة من تولي الاشخاص الاقل كفاءة مسؤولية تسيير دفة العمل والتخطيط في المراكز العلمية مثل الجامعات ومراكز الابحاث وغيرها فمثل هؤلاء تجد ان لديهم مركب نقص ويعرفون في دواخل أنفسهم مستواهم لذلك يعتبرون كل متميز عدواً لهم لأن وجوده يظهر نقصهم أمام الآخرين فيلجأون إلى كل وسائل الإحباط الممكنة للتخلص منه وإذا عجزوا عن ترويضه بالطرق العادية لجأوا إلى الهمز واللمز وإلصاق التهم وما أكثر أصحاب هذا النوع من الدس الرخيص في العالم الثالث. 3.بعض من ملكة العقل المتميز يدفعه إلى الهجرة طموح علمي لا يحققه الموقع الذي يتواجد فيه حتى وان احترم وقدم على غيره لذلك تجده يذهب إلى حيث يجد ضالته وهي إشباع روح البحث والتطوير أو المشاركة الفاعلة في الرأي والخبرة أو الحصول على الدعم المادي والمعنوي وإلى حيث يستجاب لطلباته مهما كلفت ما دامت سوف تؤدي إلى نتيجة تفيد الممول وتحفظ حق العالم والمؤسسة العلمية. 4.بعض منهم يكون قد ذهب لتلقي العلم هناك كطالب وبعد تخرجه بتميز يجد فرص العمل متاحة أمامه بل يُخطب لكي يلتحق به فيقرر بعضهم انه سوف يبقى هناك لفترة معينة ويعود إلى وطنه ولكن في الغالب يطول به المقام خصوصاً اذا حافظ على تميزه مما يجعله يتدرج في سلم المجد العلمي فيصعب عليه التفريط بما حققه من انجاز ناهيك عن عدم وجود ما يعول عليه في العودة إلى الوطن من الناحية العلمية والمادية. 5.بعض منهم يضع اللوم على الاوضاع السياسية أو الاقتصادية في بلده لذلك نجد ان أكثر العلماء المهاجرين ينتمون إلى دول غير مستقرة سياسياً أو إلى دول فقيرة جداً ناهيك عن وجود نزاعات عرقية أو طائفية أو مذهبية بالإضافة إلى ان بعضهم لا يتوافق ايديولوجياً مع النظام القائم في بلده مما يدفعه إلى البحث عن مخرج وكل هذا طبيعي فالاستقرار السياسي والوضع الاقتصادي الجيد من ابرز مقومات التنمية بما في ذلك المحافظة على العقول المتميزة في مختلف التخصصات العلمية والأدبية وغيرها. وعلى اية حال هناك العديد من الاسباب العامة والخاصة لهجرة العقول المتميزة سواء اليمنية او العربية , وقد تختلف وتتنوع هذه الاسباب من دولة الى اخري , ولا يتسع المقام هنا لذكرها , لكني احب الاشارة الى ان العنصر البشري يشكل شرطاً أساسياً للتنمية والنهوض لأي بلد , فكيف اذا كان هذا العنصر من المفكرين العباقرة والعلماء العارفين والباحثين المتميزين والمبدعين فى مختلف مجالات التنمية ؟! ويجب ان ندرك ان بناء الامم المتقدمة اليوم يستند الى خطوات مدروسة وتخطيط طويل الامد بعقول مستنيرة وبفكر خارج صندوق التقليدية , لم يوقفها الخوف من الفشل عقول مغامرة في حدود مقبولة للمخاطرة , وضعت الخطط البديلة لمعالجة أي عثرة أو تحدٍ كان يواجهه, وجهزت مجتمعاتها لقرون طويلة لتقبل التغيير على أن تكون هي العامل الرئيسي فيه وتحتضنه وتتبناه وتحدثه بما يتوافق مع تقاليدها وعاداتها وقيمها. كما ان سر نجاح وتطور الدول المتقدمة هو انها فتحت الباب للمبدعين والأدمغة اللامعة في جميع المجالات ان تشارك في تحقيق الحلم فعملت على استقطاب الكفاءات والخبرات الى الداخل من خلال التشجيع والحوافز , وفي المقابل عملت على تشجيع الهجرة العكسية لمواطنيها الى دولهم الأم وهجرة داخلية لمن يعيشون في تلك المجتمعات للحياة المدنية بكل مقوماتها والاستثمار في رأس المال المعرفي والابتكاري والبشري والاجتماعي والثقافي. وختاماً يمكن القول بأن هجرة العقول المتميزة تعد استنزافاً حقيقياً لجسد الأمة العربية وعائقاً مخيفاً لتقدمها، لأن هذه العقول تمثل الثروة الرئيسة لهذا، لذا يتوجب عليها السهر على الحفاظ عليها واستثمارها أحسن استثمار، لأن الدول العربية دول نامية كما هو معروف وبحاجة إلى كل فرد من أفراد أمتها للنهوض بها حضارياً وثقافياً واقتصادياً وتجارياً وعلمياً.. إذا ما أرادت مواكبة العصر بمختلف معطياته ومتطلباته ، لذا عليها أن توفر أسباب الراحة لكفاءاتها وتؤمن لهم كل وسائل العمل وتساعدهم على الإبداع ، بدلاً عن سد أبواب النجاح في وجوههم ودفعهم للهجرة الخارجية بالتنقل إلى بلدان أكثر حضارة وقوة اقتصادية وعلمية ، أو للهجرة الداخلية بهجر تخصصاتهم وترك ميادين إبداعاتهم وامتهان مهن عادية من أجل تأمين حاجيات معيشتهم ، ما يترتب على الحالتين خسارة كبيرة لهذه الدول ، فقد أشار تقرير منظمة الأممالمتحدة إلى أن أكثر من مليوني خبير واختصاصي عربي من حملة الشهادات العليا يعملون في الدول المتقدمة حيث يسهم وجودهم في تقدمها أكثر ويعمق رحيلهم عن الوطن العربي آثار التخلف والارتهان للخبرات الأجنبية. كما أنه وحسب آخر الإحصاءات لعدد من المنظمات والمراكز العربية يترتب على هجرة هذه العقول خسائر تنال من مقدرات المجتمعات العربية ، حيث يشير أحد تقارير منظمة العمل العربية إلى أن الدول العربية تتكبد خسائر سنوية لا تقل عن 200 بليون دولار بسبب هجرة العقول إلى الخارج ، وتقترن هذه الأرقام بخسائر كبيرة نجمت عن تأهيل هذه العقول ودفع كلفة تعليمها داخل أوطانها ، ما يؤكد أن الدول العربية تقدم مساعدات إلى البلدان المتقدمة عبر تأهيلها لهذه الكفاءات ثم تصديرها لها لتستفيد من خبراتها العلمية؟! وقد حان الوقت بأن نجعل هذه القوة العلمية سلاحاً منيعاً في يد الدول العربية يدافع عنها ويدفع بها إلى الأمام، عوض أن تصبح سلاحا فتاكاً في أيدي الدول الغربية التي تعتمد عليه في تقوية نفوذها وجبروتها وتستعمله للسيطرة على الدول العربية وجعلها تابعة لها دائماً في كل المجالات الصناعية والاقتصادية والعلمية والسياسية. رابط المقال على الفيس بوك