أثبتت الوقائع والأحداث أن حقائق التاريخ تظل دائماً ثابتة ولا يستطيع أحد أن يحجبها وان تمكن من تغييبها لبعض الوقت وتجييرها لصالحه لكنها تبقى فارضة نفسها كأمر واقع بما تحمله أو تختزنه من إيجابيات وسلبيات.. وقياساً على ذلك فإن أية مرحلة تمر من تاريخ الأمم والشعوب لابد أن يكون فيها ما يحسب لها وما يحسب عليها.. فلا يوجد في التاريخ أبيض خالص ولا أسود خالص بقدر ما يكون هناك مزيج يختلط فيه الأبيض بالأسود وقد يتغلب أحد اللونين أحياناً لترجح كفته على الآخر.. ومن هنا يحدث التقييم الذي على أساسه يتم استجلاء الحقيقة لإزاحة ركام الغبار عنها بحيث تبدو واضحة وناصعة وجلية. وفيما يخص تاريخنا اليمني قديمه وحديثه وبكل مراحله المختلفة التي مر بها فإنه قد تعرض لمحاولة تحريف وتزييف وتداعيات وصراعات امتدت لمئات السنين وهو ما يدعو إلى أن يقوم المؤرخون بمراجعة تاريخية شاملة لمثل هكذا رؤى وصراعات واستنطاق كنه ومكمن تلك الصراعات ودواعي ما كان يتبعها من مصالحات في تاريخيتها السابقة وتاريخيتها الراهنة.. لاسيما وان الوقت اصبح مناسبا الآن لمثل هكذا مراجعة في ظل غياب الجهة المهيمنة التي كانت في الماضي تجير كل شيء لصالحها ولا تسمح بإظهار الحقيقة كما هي. ومن يقلب في أوراق المراحل السابقة وبالتحديد منذ قيام الثورة اليمنية سبتمبر وأكتوبر _التي نحتفل هذه الأيام بمرور أكثر من نصف قرن على قيامها وماتزال أهدافها ومبادئها تراوح مكانها مصلوبة على الورق وفي وسائل الإعلام للتغني بها لكن حركتها على الأرض غير محسوسة _سيجد أنه بعد كل صراع وبعد كل معترك يشهده البلد كانت المرحلة تشترط أن تحدث مقاربات تفضي إلى إعادة النظر والى استعادة الرؤية الصائبة المتحررة من أوشاب المواقف الآنية المتأثرة من رماد أي صراع يكون قد أوغر الصدور أو دفع إلى اصطفافات تبين توالي الأيام والشهور والسنوات أنها كانت اصطفافات في المواقف الخطأ وتستدعي المراجعة التاريخية بحيث تعاد صياغة الرؤية الجديدة إليها من أجل أن يترفع الناس فوق جراحاتهم ليبقى المواطن ينشد الاستقرار وينشد الأمان الذي حرم منه طويلاً وفي نفس الوقت منعاً لتغلب طرف في الصراع على آخر بالإضافة إلى محاسبة الحاضر من خلال الوقوف مع النفس وماذا قدم بدل الانشغال بالماضي ومحاسبته وجعله شماعة لتعليق أخطائنا وعجزنا عليه وتحويل الصراع من صراع على سياسات للبناء والتنمية والتحديث وبناء الدولة _التي ماتزال بعد واحد وخمسين عاماً من قيام الثورة القضية الأعقد بدليل أن مؤتمر الحوار الوطني التي شارفت فترته المحددة على الانتهاء لم يحسم قضيتها بعد_ إلى صراع على السلطة والحكم.. لاسيما بعد أن وصل الشعب اليمني إلى قناعة بأنه لن يقبل بعد اليوم الاحتكام إلى الغلبة والقوة وان من يمتلك السلاح والمال يمكن أن يحكم. إن أكثر من نصف قرن مضى من عمر ثورة 26سبتمبر1962م يعد فترة أكثر من كافية لمحاسبة أنفسنا ولتجعلنا نفيق ونستيقظ من سباتنا العميق ونقف بشجاعة أمام ما قدمته الحكومات المتعاقبة للمواطن وما أحدثته الثورة خلال هذه الفترة الطويلة من تغيير إلى الأفضل مقارنة بغيرنا بدل التغني بالمنجزات الوهمية إعلامياً وأن نظل نحمل الوضع الذي ثرنا عليه وانتهى إلى غير رجعة مسؤولية تخلفنا عن الركب ونكتشف في الأخير أن المقارنة ستكون لصالح ذلك الوضع الذي قامت الثورة من أجل القضاء عليه والتخلص منه على الأقل من حيث وجود هيبة الدولة التي كان يشعر بها المواطن حينها والأمن والأمان الذي كان يعيش في ظله حيث كان عرض المواطن وماله ودمه حراماً ومصاناً لا يجرؤ أحد أن ينتهكه بغض النظر عن مستواه المعيشي بمفهوم تلك الفترة ومشاركته في القرار السياسي.. فالإنسان ليس حيوانا يأكل ويشرب وقد جاء في الأثر: إن الأمان قبل الإيمان.. ربما قد لا يصدق الجيل الجديد الذي يفتقر إلى التربية الوطنية والممنوع من قراءة تاريخ بلده وما مرت بها من أحداث والاطلاع على حقائقه أن مدينة عدن العاصمة التجارية والاقتصادية للجمهورية اليمنية والتي يتمنى المواطن الساكن فيها أو الزائر لها أن تستمر الكهرباء فيها فترة ساعتين متواصلة دون انقطاع كانت قبل خمسين عاماً تنعم بالكهرباء على مدار 24 ساعة وكان ميناؤها الشبه معطل اليوم يستقبل في السنة الواحدة أكثر من 3500سفينة..وكانت عدن حينها تشكل القبلة الاقتصادية لدول الجزيرة العربية والخليج لاستقدام كل احتياجاتهم منها واليوم من ينظر إلى وضعها في ظل سيطرة الإقطاع عليها يرثي لحالها.. وهو ما يذكرنا بما قاله الشيخ سنان أبو لحوم أمد الله في عمره للرئيس السابق علي ناصر محمد في النصف الثاني من الثمانينيات أثناء زيارته لعدن ووجدها مدينة تختلف عما كانت عليه في الخمسينيات والستينيات حيث قال: لا رحمكم الله لقد وجدت عدن مدينة أشباح.. فرد عليه علي ناصر محمد: هذه هي التقدمية. إن اليمن اليوم تواجه اصعب فترة في تاريخها بالرغم من أن ثورة الشباب المباركة قد قدمت للمسؤولين فرصة على طبق من ذهب لخدمة بلدهم والاهتمام بقضايا الوطن والشعب.. لكن لأن الطبع يغلب التطبع فقد اهتم المسؤولون فقط بثقافة الفيد التي ورثوها وتربوا عليها خلال الفترة السابقة وماعدا ذلك فلا يعنيهم في شيء..! ومن المفارقات الطريفة انه حين يتم تفجير أنابيب النفط وتخريب أبراج الكهرباء والتقطع في الطرقات وحدوث الاغتيالات التي تتم بشكل يومي.. أول من يسارع بالشجب والاستنكار هي الحكومة وكأن ما يحدث في اليمن يحدث في دولة أخرى.. كما أن وزير الداخلية عندما يتفاخر في وسائل الإعلام بإعلان أسماء المخربين دون القبض عليهم وكأنه بذلك قد حقق نصرا مبينا.. أما وزير الكهرباء فلا نعرف على من يضحك.. على الشعب أم على الحكومة؟ والشعب المسكين صابر وساكت ولم يعد أمامه من شيء يفعله إلا أن يوكل أمره إلى الله داعيا إياه أن تصل الأمور إلى بر الأمان وليس ذلك على الله بعزيز. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك