لم يكن حدث الهجرة النبوية الشريفة على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم مجرد حدث بسيط ذكره, محدودة أهدافه, لا بل كان حدثاً عظيم الذكر, كثير الفكر يقف عنده كل صاحب فكر بفكره ليستنبط منه دروساً لا تُحد وأهدافاً كبيرة وهي إلى اليوم تتوسع وتمتد, وما ذاك إلا لأن الهجرة أحدثت تحولات كبيرة وكثيرة كان النبي صلى الله عليه وسلم قد قاد تحولاتها المغيرة لمجرى التأريخ الذي ظل يسجل ولفترة زمنية قدّرت بثلاث عشرة سنة ضعف المسلمين أمام مقاومة البطش والتسلط وبشاعة التعذيب الذي تعرضوا لمختلف صنوفه من قتل وتشريد ونهب وصلب وتعذيب وحصار وتجويع من قبل كفار قريش حينها, حتى لكأنّا بخبابهم ينادي رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً : ألا تستنصر لنا ألا تدعو الله لنا يا رسول الله, ليأتيه جواب القائد الأعلى محمد صلي الله عليه وسلم بما مفاده كما صح عنه: (كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ أَوْ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ) فكان هذا الجواب مسكّناً للروع, وبلسماً للجرح, وزيادة في القوة, وقوة في الثبات, وثباتاً في ثقة بالموعود, طوال ثلاث عشرة سنة من الاستضعاف بمكة, أُعد خلالها جيل التمكين إعداداً أهّله لقيادة التحولات بعد النبي صلى الله عليه وسلم الذي قاد بالهجرة إلى المدينةالمنورة أعظم تحول مثّل نقطة البدء لتأريخ جديد من السيادة لحضارة فريدة سمت بمبادئها وقيمها ونظمها الشاملة لكل جوانب الحياة, لتعم بإسلاميتها وإنسانيتها كل إنسان رغب أن يستظل بظلالها, هذا فضلاً عن كون الهجرة حدثاً غيّر مجري التأريخ في صالح المسلمين, فنقلوا على إثره من الضعف إلى القوة ومن الذل إلى العزة ومن الضيق إلى السعة ومن الفقر إلى الغنى ومن الظلم الذي مورس ضدهم إلى العدل الذي أقاموا دولته, فصار على إثر هذا التحول العظيم محمد صلى الله عليه وسلم أعظم قائد للتحولات عرفته الدنيا دون منازع إلى يوم أن يرث الله الأرض ومن عليها شهد ويشهد بهذا أعداؤه قبل أتباعه, وما ذاك إلا لأن كل مواصفات قادة التحولات جُسدت فيه فطرةً وفكراً وسلوكاً وأُخذت عنه تربية وتعليماً ومنهجاً, فلقد كان في قيادته مربياً ومعلماً ومنظِماً لشئونه ولشئون أتباعه, مؤمناً بمهمته التي هي أعظم مهمة وهي مهمة إصلاح الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور, قدوة في أفعاله وسلوكه, حازماً عادلاً, مبادراً مبدعاً, عارفاً برجاله معايشاً لهم, يشجع ويحذر يخطط وينفذ, شجاعاً مقداماً, كريماً معطاءً, شهماً سمحاً, هكذا كان وعلى هذا حث وبهذا ربّى وعلم, فعلينا ونحن من أراد أن يقود تحولات في حياته وحيات الآخرين أن نعيد صياغة حياتنا ورسالتنا في الحياة من جديد وفقاً لما صاغ عليه النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه قادة أعظم تغيير عرفته الدنيا, ولن يتأتى لنا ذلك إلا بالوقوف عند أحداث السيرة النبوية العطرة وسير الصحابة والتابعين, لنرتشف من معينهم الصافي ما نصلح به يومنا ونستشرف به غدنا ونرتقي به في حاضرنا ونُسعد به في مستقبلنا. نسأل الله التوفيق والسداد. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك