قبل قرابة ثلاثين عاماً كان أحد أبناء قبائل صعدة قد عاد إليها من رحلته العلمية في مكةالمكرمة .. عاد ممتلئاً نشاطًا وحيوية لينشر ما تعلمه بين الناس .. أخذ يلقي دروسًا في الحديث النبوي الشريف الذي كان مجال دراسته, وبدأت تلتف حوله أعداد من المتعلمين, حتى انتهى به الأمر إلى تأسيس دار لتعليم الحديث حفظًا بالسند وبحثًا وتدقيقاً في علم الرجال .. ولأن الرجل كان بارعًا في تخصصه فقد أخذت شهرته تطير في الآفاق, وأخذت البلدان العربية والإسلامية وغيرها من بلدان العالم تعرفه بوصفه عالمًا ومحققًا في الحديث ومصطلحه وعلم رجاله, وكان يعد ضمن علماء قلائل في العصر الحديث اشتهروا في هذا المجال, كما هو شأن محمد ناصر الدين الألباني في بلاد الشام .. فما لبث صاحبنا أن نشر كتباً في علم الحديث يؤكد ضلوعه في هذا العلم وتمكنه فيه وجدارته بتأسيس مدرسة يمنية في تحقيق الحديث ونقد السند, مدرسة يأتي إليها هواة هذا التخصص من مختلف بلدان العالم .. لا شك أنكم قد عرفتم أن هذا الرجل كان هو (مقبل بن هادي الوادعي), وأن المنطقة كانت هي (دماج). هذا الرجل الوادعي كان حتى وفاته يحظى بمكانة عالية في قومه, وكانت قبائل صعدة وما جاورها تهيّئ له الظروف لاستقبال أفواج المتعلمين وحمايتهم .. وعلى الرغم من أن مدينة صعدة كانت ولا تزال معقل الزيدية الأول؛ فإن الرجل لم يجد حينها من يتصادم معه أو يصده عن هذا الفعل, وإن كان هناك من يرى فيه توسعًا للحنبلية الوهابية.. ويبدو لي أن معرفة الوادعي بتسامح المذهب الزيدي وانفتاحه هي التي شجعته على التواجد في صعدة بذلك الحجم, لاسيما حين يتذكر أن إمام المذهب السني محمد بن علي الشوكاني خرج في القرن الثالث عشر من عباءة الزيدية, ومثله محمد بن إسماعيل العمراني في القرن الرابع عشر, وغيرهم. طيلة العقود الثلاثة الماضية لم تجد الدولة اليمنية في منهج هذا الوادعي ما يهدد أمن الوطن واستقراره, أو غيرها من المسوغات لاقتلاع مركزه العلمي والتنكيل به وبمن معه, بل على العكس, فقد كانت رؤيته تدعم الاستقرار بوجوب طاعة ولي الأمر وإن بلغ فساده عنان السماء!!, وكنت أسمع ممن يزورون (دماج) آنذاك أن الرجل يعلّم طلابه الزهد عن الدنيا والصمود أمام إغراءاتها, والتفرغ لتصحيح كثير من المعتقدات الخاطئة, وأكيد أن من يحمل هذه الرؤية لا يكون له شهوة في سلطة ولا هوى في سلاح. لا أنكر أن الرجل كانت له حجاجاته ومواقفه الحادة من بعض علماء الشريعة الإسلامية, فهذا شأن كثير من علماء الحديث والفقه والأدب واللغة في العصرين: القديم والحديث, وعلى الرغم من ذلك, فالرجل لم يكن يجاوز حدود التنويه إلى أوهامهم في العقيدة وحملهم لكل ما يقال دون تمحيص, وعلى هذا الأساس كانت له سخرياته اللاذعة التي كان يندفع إليها بحكم دقة بحثه في علم الحديث وتعمقه فيه, لكن لا يستطيع أحد أن يثبت أن هذا الوادعي أباح يوماً دم أحد, أو دعا إلى حمل السلاح ضد أحد, وظل حتى موته قبل بضع سنين رجل معرفة لم يلوّث يديه بدم. المهم, لماذا ننهض اليوم لنحاكم هذا الرجل وفكره وأتباعه من بعده محاكمةً غير عادلة, قضينا فيها بالموت على كل من يدخل (دماج) حاملاً كتاباً في الحديث لا شريطًا من الرصاص؟. على الأقل لماذا لا نحترم تخصص الآخر ومجال إبداعه؟ إن الرجل في رأيي كان قصة نجاح علمية, ومشروعه اليوم له صداه العالمي في مجال التحقيق النصي للميراث النبوي الخالد .. لماذا لم تعلّمنا الثقافة حتى اليوم أن نحترم بعضنا ونترك الاستعلاء وادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة؟. لماذا تضيق بأهل دماج اليوم جماعة تحمل السلاح, ولم يضق بهم كرسي الزيدية في مدينة الإمام الهادي طيلة ثلاثين عامًا, أتدرون لماذا؟ لأن (الزيدية) ليست مفلسة, ولا يضيق بالرأي إلا مفلس.. وحدها الإمامية السياسية هي من يؤذيها دائماً صوت الآخر, فلا تنسوا أن الإمام أحمد بن يحيى هو وحده الذي كان يضيق من محمد بن إسماعيل العمراني حين يجده مهتماً بتدريس كتب أخرى إلى جانب كتب الزيدية. إن الدولة اليوم تركت (منطقة دماج) لبغي أناسٍ فقدوا صوابهم, وحتى إذا ما أجبرت هذه المنطقة على حمل السلاح والدفاع عن نفسها خرجت الوسائل الإعلامية لتقول: إن على الطرفين إيقاف الحرب فوراً, متناسين أن هذا النوع من الحروب تنتهي بإقلاع المعتدي عن عدوانه. المتمحلون في البحث عن الأعذار لما يصنعه الحوثيون اليوم ينبغي على الأقل أن ينصروه برده عن الظلم على قاعدة (انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا), فهذه الدماء التي تسيل تدمي قلوبنا, وصمتكم ومهادنتكم قد تدفع بالوطن إلى أسوأ مما هو عليه اليوم .. تذكروا ذلك جيدًا. دعكم من المزايدات وتتبع العثرات يا رجال الكراهية والطائفية, فكل إنسان يخطئ ويصيب, وكل عالم يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب ذلك القبر, كما قال الشافعي، أما أنا فلقد صرت أخجل أشد الخجل حين أقرأ كلاماً لبعض المثقفين يستنقص من قيمة هذا الرجل الوادعي, ويسخر مما قام به, في زمن أصبح فيه الليبرالي والعلماني أشد أصولية من الإمامي (ملكيين أكثر من الملك). [email protected] رابط المقال على الفيس بوك