اتخاذ القرارات والمواقف التاريخية تتطلب شجاعة مبنية على إيمان عميق بخلفية الموقف وحيثيات القرار بمضمون قيمي، ومسئولية تاريخية، وإدراك موضوعي لكل مفردة ومكون من مفردات ومكونات القرار والموقف، ووعي مسئول بتبعات القرار والموقف.. ويزداد العبء القيمي، وتتعاظم المسئولية التاريخية، حين يكون القرار المطلوب اتخاذه يتصل بوطن ويتعامل مع حقوق، وينص على تبعات يتحملها المواطنون، وكذلك حين يكون الموقف المطلوب يتصل بقضايا مصيرية، وموضوعات ذات طبيعة مجتمعية، وأثر مستقبلي قد يؤدي إلى تغيير جوهري في الموضوع ودلالاته.. من هذه الحقيقة، نجد الشخصيات المتزنة والملتزمة، والجماعات المنتمية، والتنظيمات والأحزاب المنبثقة من إدارة الجماهير والمعبرة عنها تحرص حرصاً شديداً أن لا تسقط في قراراتها ومواقفها سقوطاً قيمياً وتاريخياً، في التعامل مع قضايا الوطن بأي درجة أو مستوى.. ويظهر هذا الحرص في تجنب التوقيع على محاضر وقرارات ذات طبيعة وطنية ومجتمعية عامة، ما لم تكن تلك القرارات والمحاضر تلبي طموحات الأغلبية من المواطنين، وتعكس قناعات مجمع عليها.. وفي هذه الحالة تكون هذه المواقف والقرارات في وضع شرعي. بمعنى أن تكون الشخصيات والجماعات والتنظيمات مختارة ومكلفة باتخاذ تلك المواقف والقرارات، وبالتالي فهي تستند على مشروعية مجتمعية، أما إذا كان ذلك في سياق اجتهادي أو مبادرة تستهدف معالجة مواقف طارئة فإن على الأطراف القائمة على صناعة تلك المواقف والقرارات أن تتوخى مزيداً من الحرص والدقة، وأن تدرك جيداً أن مشروعيتها ناقصة أو منقوصة ولا بد من استيفاء ذلك النقص بالعودة إلى الجمهور المعني بالنتائج المترتبة على ذلك الموقف وذلك القرار.. وأن لا تعطي الأطراف لنفسها حق الحسم وتتطاول على حق الجمهور، وتتجاوز قناعات ينبغي أن تحترم.. فعلى سبيل المثال، تعد المجالس التشريعية (البرلمانات)، منتخبة ومعبرة عن إرادة جماهيرية، ومن ثم فهي في كل ممارساتها البرلمانية تستند إلى هذه المشروعية، ولكن عند ارتباط القرار أو الموقف المطلوب اتخاذه في البرلمان بقضية مفصلية كتعديل الدستور، أو إحداث تغيير جوهري في شكل الحكم وآلياته الحيوية، وفي مستواها من القضايا، فإن المسئولية القيمية، والتاريخية، والوطنية تستوجب على البرلمان العودة إلى الشعب ليقول في الآراء المطروحة أو التعديلات المقترحة قوله الفصل عبر استفتاءات عامة، تنظم لهذا الغرض. وتأسيساً على ذلك، فإن مؤتمر الحوار الوطني الشامل، يستمد مشروعيته من قرار رئاسي، والرئيس يستند على مشروعية انتخابية، ولكن المشروعية الرئاسية لا تتضمن التفويض المطلق إن مخرجات الحوار تمس جوهر الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، وتُتصل بمرجعية البلاد وشكل الدولة وطبيعة النظام السياسي، وغير ذلك من الجوانب المفصلية التي لا يملك أحد حق الفصل فيها إلا بالعودة إلى الشعب صاحب السلطة ومالكها، وهو وحده الذي يحق له اتخاذ القرارات المصيرية عبر آلية نزيهة وصادقة وذات موثوقية في الإدارة والإجراء والنتائج.. قد يستغرب القارئ الكريم الكتابة في هذا الموضوع باعتباره بدهية، وأبجدية من أبجديات العمل الوطني المفضي إلى إحداث تحولات تشريعية وسياسية عميقة، وهو محق في استغرابه هذا، لكننا مع ذلك اتجهنا إلى الكتابة حين وجدنا فهماً مغلوطاً لدى البعض من وجهة نظرنا مفاده أن مجموع المشاركين في الحوار الجاري الآن في موفينبيك يمتلكون الحق في تبني قرارات حاسمة وتاريخية تقلب البلاد رأساً على عقب وتحدث تحولات جوهرية في مساراته، وتحديداً حين تم الإعلان عن وثيقة الحلول والضمانات للقضية الجنوبية... من هنا جاءت فكرة الكتابة في هذا الأمر لنقول ما نؤمن به ونعتقده، وهو أن أية نتائج يصل إليها المتحاورون، وأية مخرجات تصدر عنهم، لا تعد نهائية وقابلة للاستيعاب والتنفيذ إلا بمصادقة واضحة من الشعب، تقر تلك المخرجات وتمنحها المشروعية وتحولها إلى نصوص دستورية حاكمة وضابطة للدولة وتكويناتها الإدارية والسياسية، بمعنى أن تلك المخرجات تتحول إلى مشروع دستور لا يفرض على الشعب، ولا يعمل به إلا بعد إقراره والمصادقة عليه شعبياً.. واتصالاً بذلك نقول أن المتحاورين يقومون بعمل اجتهادي يشكرون عليه، ولكنه يظل عملاً قابلاً للنقض و التعديل من الشعب، وهم ينالون شرف الاجتهاد، أو يقع عليهم وزر السقوط القيمي والتاريخي إذا ما حاولوا تزوير الحقائق وتزييف الوعي، وتقديم المخرجات على أنها سفينة النجاة إلى شاطئ الأمان، غير قابلة للنقاش والإقرار من المستفيدين منها، عموم المواطنين. والله من وراء القصد.