من المرات القليلة والنادرة لا أجد نفسي متعاطفاً مع ماكتبه الزميل والصديق والكاتب القدير/ فكري قاسم في عدد الجمهورية الصادر يوم الخميس 2 نوفمبر من الأسبوع الفائت. دشنا في تناولة سابقة الحديث عن محددات التحديث أوالاصلاح السياسي في مجتمعنا اليمني والعديد من مجتمعاتنا العربية ،وحددنا تلك المحددات في ثلاثة هي: العقيدة الاسلامية ،القبيلة الغنيمة«أوالريع» لايمكن تخيل ممارسة السياسة في مجتمعنا دون استحضارها ،وتبين التأثيرات التي تتركها على العمل ،والسلوك السياسي وتواصلاً مع نفس الموضوع نبدأ في هذه التناولة بالمحدد الأول، أي المحدد القيمي والثقافي «العقيدة الاسلامية» ،والذي نعتقد أنه يمثل الاطار الذي يفسر معظم الممارسات والسلوكيات السياسية ومرجعية للعديد من السياسات والتشريعات التي تعرفها مجتمعاتنا. فلايمكن للفاعل السياسي في أي مجتمع من المجتمعات التحرك بمعزل عن البيئة التي يمارس فيها فعله السياسي سواءً أكانت محلية أم اقليمية أم دولية والتي تمثل الاطار الذي يتحرك فيه ،ولايمكنه تجاوزه إلا في حالات محددة وفي ظرفية زمنية معينة كما هو الأمر في حالات: الثورة ،والانقلاب والقطيعة التاريخية Alienation وحتى في هذه الحالات الاستثنائية يبقى الحديث عن القطيعة في العديد من المجتمعات العربية والاسلامية ،والمجتمع اليمني بصورة خاصة ،غير ممكن بالشكل الذي حدث في العديد من المجتمعات العربية والاسلامية وعلى الرغم من أن العديد من التجارب التي تحدث في بعض مجتمعاتنا قد تبدو منقطعة الجذور ومعزولة تماماً عن التجارب التي حدثت فيها خلال فترات تاريخية سابقة ،وهو الأمر الذي يحول دون التراكم في التجارب السياسية وفي البناء والتحديث السياسي ،إلا أن تلك التجارب تنطلق ،في الغالب من نفس نقطة انطلاق المرحلة السابقة «أي في الكثير من الحالات من المرحلة الصفرية» ،وفي اطار نفس المحددات ،والاستثناءات في هذا المجال محدودة للغاية. والفعل السياسي في مجتمعاتنا يبقى محكوماً بتلك المحددات ،وقد أبانت التجربة التاريخية اليمنية سواء في الماضي ام في الوقت الحاضر أن المحاولات المبذولة لتجاوز أو على الأقل انقاص والتقليل من اثر هذه المحددات كان يبوء ،في العديد من المحاولات ،بالفشل ،ولأسباب مختلفة: بعضها محلي وذاتي ،والآخر موضوعي خارجي ،بسبب تدخل عدد من القوى الاقليمية ،والدولية ،ويبدو من الضروري الاشارة إلى أن البيئة اليمنية ،تتسم بالعديد من الخصوصيات التي تطبع الفعل السياسي بالعديد من السمات التي قد تتفق أو تختلف عن باقي المجتمعات العربية والاسلامية. على الرغم من أن هناك شبه اتفاق بين العديد من المجتمعات أياً كانت طبيعة تلك المجتمعات وأياً كانت ديانتها ،أو درجة تقدمها ،حول بعض المعايير ،أو المؤشرات التي يعتبرها«نبيل السمالوطي» بمثابة مقاييس لتحقق التنمية الاقتصادية مثل: زيادة الدخل القومي ،وارتفاع متوسط الدخل الفردي ،واستكمال البنية الأساسية ،وتبني سياسات التصنيع ،وتوفير الرعاية الاجتماعية والصحية والغذائية ،ورفع متوسط استهلاك الفرد من الطاقة.. وغيرها من الأمور ذات الطبيعة المادية ،فإن هناك العديد من الخلافات الجوهرية ،سواء بين المفكرين ،أم فيما بين المجتمعات والدول ،حول تصور الانسان وحقوقه ،وحرياته وعلاقته بالمجتمع والسلطة ،وتركز الخلاف بالأساس حول علاقة الدين بالتنمية ،وحول الضوابط الاخلاقية ،والقيمية للتنمية. ولذا فليس من العسير على المرء أن يلاحظ وجود العديد من الاختلافات الجوهرية بين الدول والمجتمعات من حيث تصور طبيعة التنمية والتحديث ومضامينها وأهدافها ومنطلقاتها وغاياتها النهائية وقد اعتبر «روي اندرسون» والعديد من الباحثين الآخرين أن: «من أهم القضايا محل النقاش في عملية التحديث والاصلاح مايتعلق بدور Role الدين ،فالاتجاه نحو التكنولوجيا الحديثة ونشرها في المجتمع يضعف برأيه بالضرورة من سلطة الدين ،على الأقل في بعض مجالات الحياة.. وتاريخياً يبدو حصول توافق عام بين العلمانية Secularization «أي التحرك من الاعتقاد الديني إلى الاعتقاد الدنيوي كأساس لصنع القرار السياسي» والتحديث Modemization ومع ذلك فالمسألة أكثر من أن تكون حالة عادية من المواجهة أوالتضاد بين الدين والتحديث». من الحركات الإسلامية قد برزت في العديد من مجتمعاتنا كرد فعل على عجز العديد من الأنظمة العربية المتواصل عن تحرير فلسطين، وفشلها في انجاز التحديث السياسي والتنمية الاقتصادية، واعتبرت بديلاً شعبياً لها. إضافة إلى ذلك تعطي التجربة الإيرانية - في عهد الشاه - ومارافقها من احداث صورة معكوسة عن الإسلام، فعلى الرغم من أنه كانت توجد العديد من المبررات والاسباب التي أدت إلى الاستياء الشعبي من حكم الشاه، إلا أن عجزه عن التحرك وبشكل فعال لشرعنة السلطة بالإسلام «بتأكيده على أن موروث الامبراطوريات الفارسية ماقبل الإسلامية هو حجر الزاوية في الشرعية» لم يضعف سلطته فقط، بل وضع السلاح الحاسم والبات في أيدي المعارضة وأسهم في إعطاء «المظهر الإسلامي» للثورة الناشئة، وأكثر من ذلك، فقد أوحى هذا البحث عن الشرعية خارج اطار الموروث الديني للمجتمع الإيراني «.. بوجود ارتباط ولو محدود بين التغييرات المحدثة والعلمانية، وبين رؤية الانبعاث الإسلامي Resurgene كتراجع واندفاع مفاجىء إلى الخلف backlash في مواجهة التغيير». وفي إطار الفكر العربي الإسلامي تحضر الإشكالية بصورة واضحة، فيمكن القول أن الإسلام شكل وبصورة مستمرة مركزاً للصراع والسجال العنيف على امتداد المجتمع العربي الإسلامي المعاصر، ويكاد تقدير المواقف المتخذة من الإسلام، يختلف من النقيض إلى النقيض، فهناك من يعتبر الإسلام السبب الأول في واقع التخلف والاستبداد والانهيار الذي يعرفه المجتمع العربي، ولذا لايقبل أنصار هذا الاتجاه بغير إزالته من الوجود معتبرين ذلك شرطاً من شروط التقدم والتحديث السياسي والاجتماعي. 2- الدين كمحدد لعملية التحديث السياسي. من ناحية أخرى، يعتقد العديد من الباحثين أن الدين الإسلامي لايتعارض بالضرورة مع التحديث السياسي، باعتبار أن «.. الاسلام دين عالمي يهتم كثيراً بالتطور التاريخي وتحسين الوضعية الاجتماعية... ، و«أنه» بالفعل قد علم أتباعه احترام الملكية الخاصة، ودعم أخلاق العمل، وربط علاقة بين النجاح المادي والجزاء «Reward» الخالد والأبدي «أي دخول الجنة، كما جاء في الوصف القرآني «خالدين فيها أبدا» صدق الله العظيم».. وهناك العديد من مفكرينا ومثقفينا ممن يعتقدون أن الإسلام يمثل المنبع الأول والأخير لكل القيم والخيرات، وأن التمسك به هو مبرر الحياة والمخرج الوحيد، وان تخلف العرب والمسلمين وتراجعهم، ومن ثم هزائمهم المتكررة أمام الأمم والدول الأخرى ينبع من تخليهم عن الدين الإسلامي، ويدخل في هذا المجال معظم أطروحات المفكرين والحركات الإسلامية، ويدعو أنصار هذا الاتجاه إلى العودة إلى الدين، وإلى السياسة الدينية والشرعية، وتطبيق الشريعة الإسلامية باعتبار أن هذه الشروط تمثل الأساس الضروري للخروج من الوضع الراهن «وضع الاستبداد، والتخلف، والهزيمة»، وإخراج الدولة نفسها من المأزق الذي تعيش فيه، وهو المأزق المتمثل في ضياع هيبة السلطة، ومشروعيتها وكفاءتها في آن واحد، ويؤمن انصار هذا الاتجاه أنه من دون الاسلام والقيم، والشرائع المرتبطة به والنابعة منه لن يكون مصير المجتمعات العربية إلا الموت والفناء والاحتواء من قبل الدول الغربية والضياع فيها. في خاتمة هذه التناولة نشير إلى ماذكره «برهان غليون» في كتابه نقد السياسة : الدولة والدين، حيث يقول : «.. على سؤالنا في المقدمة : هل تحتاج النهضة «التحديث» أو الارتقاء إلى مستوى المعاصرة، وهل يحتاج التقدم بالفعل لإزالة تأثير الدين في الحياة العمومية، الاجتماعية والسياسية ؟ وهل تحتاج الوطنية والإبقاء على الهوية المحلية والذاتية محاربة الواقع ومنظوماته القيمية الجديدة، أو مايطلق عليه اليوم بالعلمنة أو العقلنة، أي في الواقع ميلاد نمط عقلاني مختلف في اسبقياته عن النمط العقلاني الماضي؟ ليس هناك إلا إجابة واحدة : إن النهضة تفترض الاهتمام بالدين كما تفترض الهوية استملاك الواقع الراهن المعاصر بمعاصرته وحداثته، في الوقت نفسه، إنها تفترض وحدتهما وتعاونهما لا التفريط بأي منهما، أواستمرار الصراع بينهما». فهذه القضة أثارت العديد من الجدل والسجال الفكري سواء بين المثقفين أنفسهم، أم بينهم وبين السلطة داخل المجتمعات العربية والاسلامية، وقد تعدى هذا النزاع الفكري - في بعض الأحيان - النطاق الجغرافي المحدد لمجتمع من المجتمعات ليتجاوزه إلى الخلاف مع المجتمعات الأخرى. وهذا طرح العديد من التساؤلات التي حكمت تلك المناقشات : فهل يقتضي انجاز التحديث السياسي، التخلي عن الدين، في اطار مايصطلح عليه الفصل بين الدين والدولة؟ وهل يمكن اعتبار الدين أحد المعوقات للتحديث والتنمية السياسية في المجتمعات العربية كما تذهب إلى ذلك العديد من التيارات الفكرية الغربية، بل وحتى بعض التيارات الفكرية العلمانية العربية؟ أو أنه، على العكس، يبقى محدداً اساسياً من محددات عملية التحديث السياسي، لايمكن فهم عملية التحديث في المجتمع العربي دون استحضاره، بمعنى أنه لايمكن التحرك في المجتمع العربي بمعزل عن الدين؟ بل يذهب البعض أبعد من ذلك حين يرى أن الدين يمكن أن يكون له دور محوري، وأساسي في الدفع والتحرك باتجاه التحديث السياسي في مجتمعاتنا. لقد لعب الدين الإسلامي في المجتمع العربي واليمني- ولايزال - دوراً بارزاً في تحديد الهوية الحضارية لهذا المجتمع، فالدين لايزال يتصل وبشكل مباشر بالأوضاع السياسية و الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي شهدها ويشهدها المجتمع، ويمكن في ضوء ذلك اعتبار الدين الإسلامي مظلة النظام الاجتماعي السائد في مجتمعنا العربي واليمني. ويلاحظ البعض أن العلاقة بين الدين الإسلامي والتحديث السياسي بشكل خاص، أو التغير الاجتماعي بشكل عام، علاقة مميزة ومعقدة ومتعددة الأبعاد. وعلى الرغم من انطلاق العديد من المفكرين من التسليم بهذه الحقيقة الواقعية على مستوى المجتمعات العربية، فإن وجهات النظر بخصوص تلك العلاقة متباينة، وبشكل واضح للعيان، وبخاصة حول دور الدين ومكانته في المجتمع، وبالتالي، حول ماإذا كان الدين عاملاً من عوامل دفع عملية التحديث السياسي، أو أنه، على العكس من ذلك، يعتبر واحداً من العوامل التي تعيق عملية التحديث وهو مايستدعي تحليل أبعاد هذه العلاقة في ضوء التباين الحاصل في وجهات النظر. ويمكن لنا أن نحدد أبعاد تلك العلاقة، كما تطرحها العديد من الأدبيات التنموية، في الاتجاهين التاليين : 1- الاتجاه الذي يعتبر الدين واحداً من معوقات التحديث السياسي. 2- الاتجاه الذي يعتبر الدين محركاً لعملية التحديث السياسي. 1- اعتبار الدين معيقاً لعملية التحديث السياسي فبالنسبة إلى بعض المفكرين الغربيين - وبخاصة منهم الذين يضمنون التغريب والعلمنة في تعريفهم للتحديث السياسي تبدو الإجابة واضحة على العديد من الأسئلة المتعلقة بالدور المتوقع للدين «والدين الإسلامي بصفة خاصة» في عملية التحديث التي تشهدها مجتمعاتنا العربية، فالإسلام يمكن أن يكون عاملاً معيقاً obstacle لعملية التحديث، وبالتالي فإن ارتباط الإنسان العربي بالدين الإسلامي سوف يقل ويضعف Diminish كلما تقدمت شعوبنا باتجاه الحداثة، «.. فأية محاولة لبعث الإسلام - برأيهم - هي ببساطة وقتية وغير عقلانية، ونكوص Retreat أو انسحاب إلى الماضي». وقد ساهم في ترسيخ هذا الاعتقاد الخاطىء مجموعة من التطورات التي عرفتها العديد من مجتمعاتنا العربية والإسلامية، والتي أدت إلى بروز العديد من «حركات الإسلام السياسي» بأطروحاتها الرافضة للحداثة الغربية وقيمها، ويمكن استحضار العديد من النماذج الواقعية لتلك الحركات الإسلامية في العديد من المجتمعات العربية، كماهو الشأن مع «الجبهة الإسلامية» في السودان، و«حزب النهضة» في تونس، و«الإخوان المسلمين» في كل من اليمن ومصر والأردن، ولعل النموذج الأبرز يتمثل في النموذج الجزائزي مع «الجبهة الاسلامية للانقاذ» فالملاحظ أن هذه النماذج أفرزت كما يقول «برهان غليون» : «.. إن الإسلام قد أصبح رمزاً للمقاومة ضد الدولة العصرية، بقدر ماتحولت الدولة العصرية إلى استعمار داخلي، إلى استعمار حديث، أي بقدر ما ارتبطت الأيديولوجيا العلمانية والعصرية واستثمرت ووظفت في نطاق مصالح طبقة اجتماعية». وتجدر الإشارة إلى أن الكثير. أستاذ العلوم السياسية جامعة إب