شرفة.. على المستقبل .. الكتابة كانت البداية الحقيقة للتوثيق لدى الإنسان ، سواء كانت هذه الكتابة بدائية أو متقدمة ، لكن الأخبار السيارة لم توثق في القدم واعتمدت على الذاكرة في التناقل من مكان جغرافي لآخر .. بظهور الطباعة على يد جوتنبرج في منتصف القرن الخامس عشر الميلادي كانت الخطوات الأولى لتطور الكتابة من يدوية تقليدية إلى نظام أكثر تطوراً باستخدام الحروف المنفصلة، المصنوعة من الرصاص والقصدير، ومن ثم كانت المطابع بعد ذلك. لكن الصحافة الورقية لم تواكب ذلك فقد ظلت الرسائل الإخبارية، المنسوخة باليد، باقية حتى مطلع القرن الثامن عشر وذلك لأن القيود الحكومية، والرقابة الصحفية، وقوانين النشر المختلفة، كانت تنصب على المطبوعات فقط؛ مما جعل لهذه الرسائل الإخبارية المنسوخة أهمية كبرى، وخاصة عندما تكون الحكومة شديدة في رقابتها، أو عندما تصادر المطبوعات، أو تعطلها. لكن أخبار المستعمرات عقب الكشوف الجغرافية، ومن ثم وقوع الحروب التركية والإيطالية، التي اشتركت فيها غالبية دول أوروبا، وظهور حركة مارتن لوثر الدينية، وازدهار عصر النهضة، ثم ما كان من سيطرة الطبقة البورجوازية، على الحياة الأوروبية، وتزايد الحريات، كل هذا جعل الأهمية للخبر المطبوع - غير المنسوخ يدوياً- فكانت الصحافة ، أول صحيفة حقيقية في العالم هي «The oxford Gazette » والتي سميت فيما بعد ب «London Gazette » وصدرت أول عام 1665م ، وكانت تظهر مرتين في الأسبوع ، واستمرت في الصدور إلي أوائل القرن العشرين ، وأن الجريدة الأولي باللغة الإنجليزية هي : «the Daily courant » والتي ظهرت في لندن عام 1702م ، ثم ظهرت الصحافة في المستعمرات الأمريكية ، وفي أمريكا بعد الاستقلال ، فقد شهد عام 1830م، تغييرات هائلة في مجال الصحافة ، إذ بدأ صدور صحيفة البنى The penny Press ، أي التي يستطيع الجمهور العادي ، شراؤها ، وكان يطبع منها أعداد كبيرة ، وتغطي نفقاتها بالإعلان ، وتزيد التوزيع ، بالأخبار المثيرة ، والقصص المسلية و انطلقت الصحافة العالمية بعد ذلك في مسيرتها الهائلة . كما ساعدت التطورات السريعة ، في التليفون والكتابة علي الآلة الكاتبة ، وعمليات الحفر Engraving واستخدام الألوان والأحبار في التطوير التكنولوجي ، الذي أدى إلي إخراج الصحيفة الحديثة بشكل مختلف ، كما شهد القرن العشرين تحسينات أخرى في العمليات والآلات المستخدمة خصوصا تلك التي تتصل ، بآلات الجمع التصويري وآلات الطبع الأوفست Offset، وتلك التي تتصل باختراع الطباعة عن بعد teletype وذلك حوالي 1928م « بينما يطبع الخبر علي الآلة الكاتبة في بلد ما أو مكان معين ، يقوم نظام التليتيب بطباعته في بلد آخر ، في نفس الوقت إضافة إلى المستحدثات ، في علم التصوير الفوتوغرافي ، واستخدامها ، الألوان ، وبالتالي ظهور الصحافة الملونة »pictorial journalism . ثم تلتها عدة تطورات حسنت من الصحافة الورقية كما نشاهدها في عصرنا الحالي ، ليس هدفنا طبعاً استعراض تاريخ الصحافة ، لكن لمحة عن وجودها وما أصبحت عليه … الثورة الرقمية .. بظهورعصر الكمبيوتر والأقراص المدمجة ومن بعد ذلك الشبكة العالمية المعلومات الإنترنت دخلت الصحيفة الورقية تحدياً كبيراً لم تواجهه منذ ظهر الراديو والتليفزيون اللذين كانا منافسين شرسين لها ، لكنها صمدت رغم أن التليفزيون خاصة سحب شعبية كبيرة حاولت الصحيفة الورقية تعويضه بالتحليل العميق للأخبار والتفسير وغيره ، يقول د/أحمد أبوزيد - رحمه الله “ أفلح التلفزيون ببرامجه الإخبارية المصورة والمتغيرة والمتواصلة في نقل الأوضاع في العالم أولاً بأول وبكفاءة عالية إلى المشاهد حيثما كان, لدرجة أن نسبة لا بأس بها من قراء الصحف اليومية في الدول المتقدمة تحولوا عنها إلى مشاهدة القنوات التلفزيونية وعانت الصحف عناء شديدا من تراجع معدلات التوزيع وفداحة الخسائر المادية المترتبة على ذلك. “ في هذا الترنح جاءت شبكة الأنترنت لتقضي على البقية الباقية من الصحافة الرقمية ، وذلك بإمكانياتها الهائلة من مواكبة الخبر لحظة وقوعه والتخلص من كل الظروف البيروقراطية المسايرة للصحافة الورقية من حيث الطباعة التوزيع والمنع والمصادرة والحظر وغيرها ، إلى جانب ظهور شرائح كثيرة في المجتمعات تفضل أن تقرأ الأخبار الطازجة التي لا تستطيع صحف ملتزمة بدوام وظيفي أو حكومي مواكبته ! فكانت الصحف الورقية أن توجهت نحو النشر الإلكتروني الذي يصحب في صالح الخصم اللدود شبكة الويب ، ينقل د. أحمد أبوزيد قول أحد كبار رجال الصحافة الأمريكيين, وهو جون سكويارز John Squires عام 2004م :” لقد ماتت بالفعل الجرائد المطبوعة, ولذا ينبغي على صناعة الصحافة أن تركز تركيزا شديدا على النشر الإلكتروني” لقد تغير سلوك القراء مع اجتياح الإعلام الرقمي عبر الإنترنت، فيما دخلت الصحف الورقية في أزمة سميت ب” السوق المريضة”. فأصبحت أغلب صحف العالم اليوم لديها مواقع إلكترونية يستطيع أي قارئ أن يتصفح موادها بدون أن يكلف نفسه الذهاب لأقرب مكان لشراء نسخة الصحيفة الورقية .. في أوائل شهر سبتمبر 2013م أطلق الصحفي الفلسطيني عبدالباري عطوان في لندن موقعا إخباريا جديدا- وهو موقع “رأي اليوم www.raialyoum.com”- وذلك بعد شهرين على استقالته من رئاسة تحرير صحيفة القدس العربي- التي ظل في رئاسة تحريرها 25 عاماً - وكان السبب وراء ذلك ليس استقالته من صحيفة القس العربي ، بل لأن “أكثر من 95 بالمئة من قرائها «أي القدس العربي » يتابعونها عبر شبكة الإنترنت، ووسائط الاتصال الاجتماعي الأخرى مثل فيسبوك وتويتر، وان معظم ميزانية الصحيفة تذهب للخمسة في المئة الذين يقرأونها مطبوعة ، فمع تعاظم الديون والضغوط المترتبة عليها، كان لا بد من التفكير بطريقة مختلفة، ومجاراة العصر ومتطلباته، والسير على نهج مطبوعات عريقة مثل نيوزويك وكريستيان ساينس مونستور، هجرت الورق تحت ضغط العجوزات في الميزانية وتضاءل الإعلانات والقرّاء معاً”. كانت أشهر مجلة هجرت الورق هي مجلة نيوزويك Newsweek التي تحولت في بداية عام 2013م إلى النشر الإلكتروني بعد أكثر من 75 عام من النشر الورقي - صدر عددها الورقي الأول في العام 1937م- فتم تحويلها إلى مطبوعة رقمية تصدر بعنوان “ نيوزويك جلوبال Newsweek Global “. فأي مستقبل ينتظر الصحافة الورقية في ظل هذه التحديات؟ المستقبل سيخبرنا بذلك …