كان الليل صديقي في صالته الجميلة، كنا نجتمع مع القمر والنجوم وأمي في الليالي الملاح، كثيراً ما يشاركنا صوت زقزقة وصفير.. كان ابن عمي «عبده علي» الله يشفيه يقول لي إنها صادرة من طير أعالي الشجر؛ بينما العم عبده سعيد يؤكد أنه صوت مخلوق من سلالة «النحل» يصدر صوته من الأشجار أيام الصيف تحديداً، هو صوت إيحائي بالمناسبة يصدر عدة إيحاءات عن الوحشة والأنس والموت والحياة والحركة والسكون، هي حياة فصلتنا عنها المدينة والحياة المتسارعة المصحوبة بعوادم السيارات والدراجات النارية وزحمة الناس وانقطعت علاقتنا بالسماء وأفقها الرحب كصورة من صور الجفاء. هذا ما أحسسته يوم أمس وأنا آخذ نفساً لأهرب من ضيق الزحمة لأصعد بنظري إلى أعلى؛ وفجأة لمحت الأفق الجميل بنجومه وصفائه، كان مدهشاً حقاً وهو ما جعلني أصعد إلى سطح المنزل، وحسناً فعلت الكهرباء عندما انطفأت، ورأيت النجوم تلقي إليّ نظرة عتاب..!!. أحزنتني حقاً وأدخلت في نفسي حزناً غامضاً؛ ما أتعب وأوجع الأحزان الغامضة؛ إنها تنهش كبدي نهشاً، وتجعلني أبكي على الأيام والأصدقاء والأحباب الذين مرّوا مثل الغيمة الماطرة، باعد بيننا الزمان والمكان وأولئك الذين غيّبهم الموت. يتراءى لي أبي يصلي الليل جوار القمر، وتملأ صورة أمي الأفق مكسوة بسحب بيضاء لأجد قصيدة الفضول تردّدني بشجن دامع: أذكرك والليالي غامضات النجوم والسماء مستضيفة ساريات الغيوم والقمر قد توارى في السحايب يعوم والهواجس بقلبي ساهرة لا تنوم ومن الأصدقاء المغيّبين القمر الذي لم أعد أراه منذ مدة وهو صديق طفولة، بالمناسبة مازلت أذكر الأغنية التي كنا نردّدها: «العصيد برده، واللبن غاب والقمر ضوّى على الأشعاب» كانت أغنية تطربني ومازالت وأفهم منها العلاقة الحميمة بين الخبز واللبن والقمر وأنا. وعندما كبرت قليلاً كان القمر والنجوم أصدقاء دائمين خاصة في «الألعاب» الليلية الجماعية التي تصلح لأن تكون ضمن الألعاب «الأولمبية» لو وجد من يوثّقها مثل لعبة «العير» وهي لعبة قمرية جماعية تتطلب رشاقة؛ كان الكبار والصغار يخرجون يمارسونها مع القمر في صفوف على شكل مباريات وبقواعد محددة وصارمة، وكان البعض يسميها «لعبة القمر». النجوم في جانب القمر كانت تمثّل لنا أسرة جميلة، وكان لنجوم محدّدة مكانة خاصة لها أسماء نسيتها للأسف ولم أعد أذكر سوى «نجمة الصبح» الجميلة ويعرفها البعض بأنها هي «الزهرة» التي قيل إنها اجتمعت ليلة الأربعاء الماضي مع القمر والأرض أمام الشمس في استعراض مبهر يحدث في بداية ونهاية العام كلقاء حب يجمع شمل الأقارب والأصدقاء. وأظنكم تعرفون لعبة «المساء» هذه لعبة مشهورة أكثر وهي «فلكلورية» فكاهية زيارات بأناشيد جماعية من قرية إلى أخرى تدقُّ الأبواب وتصدح بالأغاني بكل براءة وحب؛ منها: «يا مساء يا مساء الخير يا مساء.. يا مساء والثريا بالسماء.. يا مساء والقمر يلوح يلوح.. يا مساء والنجوم جنبه طروح» وهي أناشيد مبهجة توضح ارتباط إنسان القرية بالسماء ونجومها وصفاء الأفق العميق، وهي للأسف ألعاب في طريقها إلى الاندثار. عرفت أمس أن عليك أن تهرب من ضيق وضجيج المدينة وأعباء الحياة وشقاوة السياسة إلى السماء ليلاً لتزور أصدقاء لك في أعالي السماء أطربوك وأفرحتهم ذات يوم، ترنو إليك بحب وتعرف عندها أن الكون فسيح، ويحبك ولا مبرر لأن نضيق على أنفسنا وندخلها في «خرم إبرة» ولن تكون كذلك يا صاحبي ما لم ترتبط بعلاقة صداقة مع الكائنات وتتشقر بالحب للناس والمخلوقات تناجي القمر والنجوم وتطرب للشجر والأرض والفجر والأصيل ووجه السماء على صفحة الليل، يسبح بحمد الله وكرمه مهما كانت المنغصات والمخاطر، ولا بأس أن تردّد بحب وأمل مع إيليا أبي ماضي: أدركت كنهها طيور الروابي فمن العار أن تظل جهولا تتغنى والصقر قد ملك الجو عليها والصائدون سبيلا فهي فوق الغصون في الفجر تتلو سور الوجد والهوى ترتيلا كلما أمسك الغصون سكون صفقت للغصون حتى تميلا فإذا ذهب الأصيل الروابي وقفت فوقها تناجي الأصيلا لم نعد نسمع عن الرحلات القمرية، كان طلاب المدينة يخرجون في رحلات ليلية إلى خارج المدينة الهدف منها الارتقاء بالنفس والذوق وعمل علاقة حميمة مع النجوم والقمر وخُمرة التربة ونفحات الأزهار لتعرف كيف يرتبط الكون بعلاقة واحدة، وما أنت إلا جزء يسير لا قيمة لك إلا بالحب والتأمل، نحتاجهما لنثبت أننا بشر نعبد الله بالحب والتأمل، صفتان يصقلهما الليل ونجومه والبادية وليلها المؤنس المليء بالحكم ونواميس التأمل. لقد أضعنا التأمل وفقدنا الحب، يا إلهي سنصبح أشبه بالإنسان الآلي ونفقد كل شيء..!!. [email protected]