شكّلت الثقافة القبلية المتمرّدة جزءاً كبيراً في بناء الوعي الجمعي لدى قطاع واسع من أبناء اليمن اعتقاداً منهم أن تلك ضرورة دائمة لحماية الذات القبلية من الذوبان في محيط الدولة وعدم الولوج بشكل كلي في دائرة النظام والقانون، ما يعني بقاء القبيلة بين النظام واللا نظام، والدولة واللا دولة. ظلّت الخيارات الأكثر مرارة وصعوبة واستنزافاً منذ قيام الثورة وحتى يومنا هذا متوزعة بين أن نكون مع الدولة أو مع القبيلة، فكان أن أتاحت الفرصة الكبيرة والذهبية للمشايخ في تشكيل وعي وسلوكيات القبيلة وتوجهاتها وفق مصالحهم وأطماعهم التي تجاوزت الحد الطبيعي لتذهب بعيداً في اتجاه الاستخدام السيئ والمفرط للقبيلة. من المؤكد أن الدولة وخلال العقود الماضية حاولت على استحياء وخجل الوصول إلى القبيلة بعيداً عن سطوة المشيخ المتغلّب، لكنها سرعان ما اصطدمت بوعي القبيلة الرافض للدولة شكلاً ومضموناً، الأمر الذي أودى بأجيال إلى مرابع الشيخ ومواطن الاستخدام المفرط لهم ضد وجود الدولة ومحاولتها مد جسور المدنية إلى مناطقهم. السبب الآخر الذي أبقى القبيلة حقاً محتكراً لبعض المشايخ ما كانت تقوم به الدولة من دعم بلا حدود للمتنفّذين بُغية كسب ودّهم وولائهم وشراء مواقفهم التي كانت تتأرجح بين الحين والآخر في اتجاه من يدفع أكثر سواء من الداخل أم الخارج؛ حتى غدت القبيلة أشبه بمرتزق يقتات من تناقضات وتضارب المصالح. الخيار الوحيد الذي ظهر أمام اليمنيين منذ فجر الثورة وحتى اليوم هو «إما الدولة وإما القبيلة» ولا خيار غيره يمكن الهروب إليه، وكشفت الأيام أن خيار الدولة والنظام والقانون هو الخيار الصحيح والعقلاني، لأن اختيار الدولة هو اختيار الحاضر والمستقبل. اليوم وبعد تواتر الأحداث التي خلخلت الخارطة القبلية وإعادة قراءة تلك الخارطة بمفاهيم جديدة تتوزّع بين السياسي والطائفي، معلنة مرحلة جديدة من الصراع الذي قد يكون أشد وأقسى، ولابد في المقابل من الوقوف أمام تلك المتغيّرات بوعي جمعي محايد غير قابل للتبدل والتناقض. الدولة معنية ببسط نفوذها ومد جسور مؤسساتها إلى تلك المناطق القبلية التي تكشفت عن فراغ كبير في المدارس والمعاهد المهنية والمعلمين القادرين على تغيير الوعي بتعريفه بمساوئ الانغلاق القبلي وما يخلّفه الجهل والأمية من ظروف سيئة، من ثم العمل على نقل المجتمع إلى ضفاف المدنية واحترام النظام والقانون. على الدولة نقل المواطن من عهدة الشيخ إلى عهدة الدولة حتى يستطيع تقبُّل التغيير وهضم القيم المدنية بسهولة ويُسر، كما أن على الدولة أن توحّد المناهج الدراسية وعدم السماح لأي تعليم طائفي أو مذهبي متطرّف أو حزبي موجّه أياً كان ومهما كانت أدواته وضغوطاته توحيداً للوعي الاجتماعي؛ وعدم تركه في مهب الضياع والتقاسم. طالما وقد أيقن أبناء المناطق التي أغلقت قبلياً لعقود من الزمن الثوري أن الدولة هي الحل والخيار الأمثل والصائب، فعلى الدولة أن تقوم بواجبها وبسط نفوذها ومد جسور الحياة إليها حتى لا تظل تحت سطوة أشخاص ومتنفّذين جُدد. [email protected]