أما الجثة فهي الدولة الغائبة من حياة اليمنيين منذ خمسين عاماً «*» وتحديداً من اللحظة التي أنتجها مجموعة الضباط الشبان في سبتمبر 1962م، حين استطاعوا اجتذاب القوى المهملة «البعيدة عن حسابات النظام الملكي المغلق على الأسرة» إلى المساحة التغييرية التي بشر بها الخطاب الجديد المتماهي مع محيطه القومي، ومركزه المؤثر (القاهرة) لكن على مدى سنوات خمس دخلت البلاد في أتون حرب أهلية طاحنة اختصرت لحظة التعارضات الحادة بين قطبي العالم آنذاك التي حوّلت هذه الرقعة المنسية إلى بؤرة للاحتراب بالوكالة، فكان على اليمنيين جميعاً الاصطفاف خلف أحد المشروعين (الجمهوري أو الملكي) الذي آل في الخامس من نوفمبر 1967م لصالح تحالف القوى المشيخية ويمين الثورة وحزب البعث العربي «صاحب الخصومة الشديدة مع نظام عبدالناصر» التحالف الذي استطاع تحجيم قوى الثورة الشابة، قبل جرّها إلى مربع الاحتراب الطائفي كما اختزلته وعبّرَت عنه أحداث أغسطس 1968 التي أجهزت عملياً على كل حوامل التغيير التي بشّرت بها القوى الجديدة بنزوعها الاجتماعي القريب من حلم الناس وتحت مظلة هذا التحالف ستنجز التسوية الملكية الجمهورية مطلع سبعينيات القرن الماضي برعاية الجارة السعودية التي كانت قد أحكمت قبضتها تماماً على القرار السياسي في اليمن، بعد الفراغ الذي تركه الخروج المصري المنكسر من اليمن. هذه التسوية أتاحت لحلفاء الشقيقة «مشايخ وملكيين ورجال دين» من الإمساك بمفاصل الحكم في بلاد بدأت بالتحلل بعد انفراط حلم اليمنيين في الانتقال إلى مساحة أفضل تحت الشمس، وحين ضربت الفوضى المدمرة كل شيء في البلاد وأوصلتها إلى حالة الانهيار الشامل؛ كان لابد من أن تتخلّق حالة جديدة من داخل الجيش ذاته وبمباركة من (الشقيقة) وتحالفها الحاكم؛ فكانت حركة الثالث عشر من يونيو 1974 التي قادها المقدم ابراهيم محمد الحمدي وخليط من الضباط ذوي الانتماءات السياسية والقبلية والجغرافية المختلفة، وفي سنوات ثلاث ونيف قدّم الحكام الجدد أنموذجاً خارج رغبة الشقيقة وحساباتها مستفيدين من النزوع الشعبي الجارف لاستعادة حلمه في الثورة المغدورة؛ والأهم استعادة قراره السياسي المختطف منها أو من حلفائها، لهذا دفع الحمدي حياته ثمناً لمغامرة شديدة الخطورة استهدفت في الأساس مشروع القوى التقليدية «بجناحيها القبلي/الديني» لصالح بناء الدولة (الحديثة) وقرارها المستقل. في يوليو 1978 آلت السلطة إلى أحد الضباط والذي نُظر إليه كأحد الرعايا المطيعين للشيخ (الحليف الأبرز للشقيقة) وعلى مدى ثلث قرن تالٍٍ عمد الحاكم إلى بناء سلطة (غاشمة) بالحيلة من تطييف أوسع من التحالف ذاته للقوى التقليدية (مشايخ وعسكر ورجال دين) بدلاً عن بناء دولة (التي حاولت حركة يونيو خلقها في أذهان الناس في السنوات الثلاث بطريقة أقرب إلى الحلم الجميل) هذا التحالف عمل على التسريع من تحلُّل الدولة كجثة مجهولة، ولم تسلم من هذا النزوع (الاستكلابي) بنية الدولة التي كانت قائمة في جنوب البلاد بعد جائحة صيف 1994م من ذات التحالف الذي انضم إليه الطرف المهزوم في أحداث يناير 1986م لتتشكل قاعدة الحكم المترهلة من هذا الخليط العجيب الذي ظل يقتات من الجثة المتحللة شمالاً وجنوباً. وفي مطلع الألفية بدأت تظهر وبشكل واضح التقاطعات الحادة بين رأس الحكم وحلفائه، بعد أن أدرك أصدقاء الأمس ان علي عبدالله صالح يبني مشروعه الخاص في الحكم وتوريثه على حساب الجميع الذي بدأ بتحييدهم أو التخلص من أقويائهم في حوادث متفرقة. وخلال العقد الزمني الأول من الألفية الجديدة ستسيل مياه كثيرة في مجرى السياسة المضطرب؛ إذ سيشهد أوسع تحالف سياسي للمعارضة من أحزاب وتنظيمات ظلت نقاط التقاطع التي تتحكم بمسارات تحالفاتها أكثر من توافقات الثقة فيما بينها، وساعد على استمرار هذا التحالف الهش تصدعات بيت الحكم ذاته؛ ابتداء من انتخابات الرئاسة في سبتمبر 2006م التي خاضتها المعارضة بشخص فيصل بن شملان حاصدة صوتاً جارفاً في الشارع عبّر عن ملله من إدامة حكم صالح، وتُبعت هذه اللحظة ببروز الحراك السلمي في مطلع العام 2007م الذي اجتذب إليه كامل الشارع في المحافظاتالجنوبية وصولاً إلى الخروج الكبير للشارع شمالاً وجنوباً في فبراير 2011م، الذي زلزل الأرض المائعة تحت أقدام الحاكم لتتمكن المعارضة وتحديداً حزبها الأكبر (تجمع الإصلاح بأذرعه القبلية والعسكرية) من استحضار السلطة التي لم يكن بعيداً عنها أصلاً، ليلتبس بها حد الالتصاق بعد نوفمبر 2011م دون أن يعمل على تهيئة أرضية صلبة للمشاركة التي من شأنها إنتاج لحظة التحول التي هي بحسابات متعددة لا تخدم مشروعه التمددي في بنية السلطة الرخوة. هذا النزوع (البرجماتي) لحزب الإصلاح وحلفائه (دون شركائه) أتاح لقوى جديدة (قديمة) صقلت مشروعها المظلومية التاريخية وجنون الحروب الستة التي خاضتها ضد النظام في صعدة بين (2004 و2009) ان تقدم نفسها كحالة مختلفة لتحرير البلاد من حالة الخطف الطويلة من ذات القوى التي تتحكم بمصائرها منذ خمسين عاماً بما فيها حزب الإصلاح؛ وفي سبيل ذلك تخوض الحركة الحوثية الحروب دون كلل في أكثر من محافظة ومنطقة تمثل عمقها المذهبي، يحذوها حلم استعادة السلطة والثروة التي باعد بينها وبينهما الخضات الكبرى التي مرّت بها البلاد على مدى العقود الخمسة المنصرمة. القوى السياسية بكل تجلياتها تتصارع لإدامة حياتها في البلاد على حساب الدولة الغائبة والمغيّبة معاً؛ لأنها راهنت طيلة العقود الخمسة على بناء حضورها كمراكز نفوذ تبتز الجميع وتحيا من مقدّرات البلاد بممارستها للعنف والفساد والحكم تحت لافتات سياسية لأنها بكل بساطة لم تفكر يوماً بالاصطفاف خلف مشروع وطني جامع لانتشال البلاد من لحظتها الرمية هذه التي صارت تُغري لنهشها أي طامع وطامح ومغامر. «*» وهذا لا يعني أن نظام الحكم الإمامي كان يرتكز على دولة وإنما كان نظام حكم عصبوي مغلق مثّل فيه شخص الحاكم اختزالاً للسلطتين الزمنية والروحية. [email protected]