ما معيار التدين؟ وكيف يمكن قياس نسبة التديّن في مجتمع ما؟ وما علاقة نسبة تديّن هذا المجتمع بجوانب الحياة المختلفة لديه!؟ أسئلة صعبة، بقدر صعوبة إخضاع الأمور العقائدية إلى معطيات مادية قابلة للإحصاء، والخروج بإحكام قطعية موضوعية بناء عليها.. ومع ذلك حاولت كثير من المنظمات ومراكز الأبحاث المعنية بالأمر، أهمها معهد “جالوب” الدولي (WIN-Gallup International)، مقاربة هذه الظاهرة، ظاهرة الدين والتديّن في العالم المعاصر، في توجهاتها وعلاقاتها وانعكاساتها العامة على أوضاع وظروف الدول والشعوب.. بطريقة إحصائية تتحرى أكبر قدر من المنهجية للخروج بنتائج بأقرب قدر من الموضوعية. التقرير الشهير التي أصدرته مؤسسة “جالوب” الرائدة في عمل الاستطلاعات والدراسات الإحصائية، تحت عنوان: “مؤشر عام حول الدين والإلحاد”، ضم نتائج لاستطلاع واسع، استمر ثلاث سنوات، وشمل عينات من 143 بلدا وإقليما حول العالم، تضم العينة الواحدة ألف شخص (18+ ) في كل دولة. كان السؤال المحوري للاستبيان: هل الدين جزء هام من حياتك اليومية أم لا؟. واستخدمت فيه الاتصالات الهاتفية واللقاءات الشخصية، كأدوات للحصول على الإجابات، التي تضمنت التفريق بين غير المتديّن واللاديني “الملحد”. في كل حال ظهرت نتائج الاستطلاع حافلة بالمفارقات من جوانب كثيرة، على حساب الآراء المستقرة المسبقة، والتوقعات والانطباعات العادية، وفي إثارتها لكثير من علامات التعجب والقضايا الجدلية حول طبيعة التدين، وتوجهات الشعوب، ومستقبلها، وعلاقة الدين والتديّن بمختلف جوانب الحياة المعاصرة. العالم يصبح أكثر تديناً: حسب إحصائيات غير مطلقة، يبلغ تعداد سكان العالم الآن نحو (7مليار نسمة)، ما بين 85 % : 95 % منهم يؤمنون بإله، أو بكائنات ميتافيزيقية تتحكم بالكون، وطبقاً لبعض الموسوعات يوجد في العالم (10.000) ديانة متميزة، منها 150 ديانة فقط يزيد عدد المؤمنين بها عن مليون فرد، وتترتب أكثر عشرة إديان انتشار في العالم كالتالي: المسيحية ( 2مليار)، ثم الإسلام (1,3مليار) ثم الهندوسية( 900مليون) ثم غير المؤمنين بأي دين (850مليوناً) ثم البوذية( 360مليون)، ثم أتباع المذاهب القومية ( 228مليون)، ثم الأديان الوثنية الافريقية ( 95مليون) ثم السيخ ( 23مليوناً) ثم اليهودية ( 19مليون). بخلاف كثير من الآراء والنظريات الشائعة التي تكرس فكرة أن العالم يبتعد عن الدين، في سياق الثورات العلمية والتقنية وانتشار قيم ومظاهر العولمة.. جاءت نتائج إحصائيات “جالوب” مؤكدة لأحاديث بعد حداثية عن عودة الأصوليات والالتفاف حول الهويات الدينية، ولتبرهن إحصائياً أن العالم يصبح أكثر تديناً، وهو ما يوافق نتائج دراسات إحصائية أخرى منها ما قامت بها مؤسسة “بيرتلسمان” الألمانية، حول نفس الموضوع. حسب الدراسة فإن الدين ما يزال يلعب دوراً هاماً في حياة الكثير من الناس في جميع أنحاء العالم، حيث تبلغ نسبة التديّن في العالم المعاصر، ال 84 %، كمتوسط عالمي يتفاوت ارتفاعا وانخفاضا بين الدول والأقاليم، لترتفع نسبته في البلدان ال 10 الأكثر تدينا إلى 98 %. على مستوى القارات حازت إفريقيا على النسبة الأعلى، حيث صنف 89 % من السكان أنفسهم على أنهم متدينون, تليها أمريكا اللاتينية(84 %)، ومن أعلى بلدان العالم في مستوى التدين: غانا(96 %), نيجيريا(93 %), مقدونيا(90 %),رومانيا(85 %),كينيا(88%),بيرو(86 %),باكستان(84 %)مولدوفا(84 %),كولومبيا(83 %),الكاميرون(82 %). فيما تنخفض نسبة التديّن في الدول ال11 الأقل “إيمانا” بين 14 و27 %.، وفي حين تصدرت مصر قائمة الشعوب الأكثر تدينا بنسبة 100 % جاءت أستونيا(إحدى دول البلطيق الثلاث) كأقل دول العالم “إيمانا” بنسبة 14 %. على صعيد اللادينية “الإلحاد” ذكرت الدراسة أن النسب الأعلى للإلحاد والأقل للتدين، تتركز في أجزاء من أوروبا، وشرق آسيا، بحيث احتلت الصين المرتبة الأولى عالميا بالإلحاد بنسبة(47 %), اليابان(31 %), جمهورية التشيك(30 %),فرنسا(29 %),كورياالجنوبية(15 %),ألمانيا(15 %),هولندا(14 %),النمسا(10 %),أيسلندا(10 %),أستراليا(10 %).. بينما تنخفض نسبة الإلحاد بدرجات متفاوتة بين دول العالم الأخرى، لتصل نسبته إلى أدنى درجاتها في كلٌ من تونس واذربيجان وماليزيا وغانا وافغانستان وفيتنام، وبنسبة 0 %. من الجدير بالذكر أن تقريرا آخر، ذكر أن« 13 % من الناس في العالم يصنفون أنفسهم على أنهم ملحدين, بينما 23 % يقولون أنهم غير متدينين, في مقابل 59 % يصفون أنفسهم أنهم متدينون.. و بالمقارنة مع استقصاء مشابه أجري في 2005, بدا أن معدلات المتدينين انخفضت بحوالي 9 %, بينما زاد الملحدون بمعدل 3 %...»!!... التديّن والأديان: يرسخ تنامي نزعات ونزاعات فصائل الإسلام السياسي، وتصاعد مظاهر وظواهر المد الأصولي الإسلامي الجارف، وتعالي الضوضاء الإعلامية المرافقة للحرب العالمية على الإرهاب، فكرة أن المسلمين أكثر شعوب العالم تدينا، بما يتجاوز التديّن إلى التطرف والتزمت والعنف.. لكن إذا كان معيار التديّن هو مدى أهمية الدين في السلوك الفردي اليومي للشخص، سواء كان لاهوتياً أو علمياً أو أصولياً أو علمانياً، فسيختلف الوضع، لتفاجئنا نتائج إحصائية “جالوب” بأن البوذيين هم أكثر أتباع الديانات العالمية تدينا بنسبة 98 %.! والأغرب أن نسبة الإلحاد لدى البوذيين لا تتراوح الصفر! يتديّن البوذيون بلا ضجيج، وينتشرون في دول علمانية مستقرة ومنتجة، وبخلاف المسلمين ليس للبوذيين، على الأقل في الوقت الراهن، إشكاليات دينية مع العلم والعلمانية، أو مع السياسية والسلطة، وهي المشاكل التي ستجعل العالم الإسلامي يطفح بالأزمات والحروب والعنف لمراحل قادمة. ! الدين في الأديان الإبراهيمية: على صعيد الأديان الإبراهيمية الثلاثة، يحتل المسيحيون المرتبة الأولى في عدد المتدينين، وبنسبة 81 %. يليهم المسلمون بنسبة %74، وأخيرا اليهود بنسبة 38 %. ليكونوا اقل الأديان الإبراهيمية تدينا، وإليه تبلغ نسبة غير المتدينين من اليهود 45 %، ومن المسلمين 20 %، ومن المسيحيين 16 %. ورغم أن متوسط نسبة التديّن في العالم الإسلامي أقل منها في المسيحية والبوذية على مستوى العالم، إلا أن دولا ذات غالبية مسلمة هي التي تصدرت قائمة الدول الأكثر تدينا في العالم كالتالي: الشعب المصري أكثر شعوب العالم تديّناً بنسبة 100 %، يليه الشعب البنغلاديشي بنسبة 99 %،، ثم المغربي بنسبة 98 %، وهي نفس نسبة التديّن في كل من اندونيسيا وجيبوتي والإمارات العربية المتحدة، بالإضافة لجمهورية الكونغو المسيحية..! في المقابل يحتل المسلمون المرتبة الأولى في الإلحاد بنسبة 3 %، يليهم اليهود بنسبة 2 %، فيما لا تتجاوز نسبة المسيحيين الملحدين من مختلف المذاهب 1 %.!! هذه النسب المفاجئة تثير النظر إلى طبيعة التديّن الإسلامي ونوعيته، وما الذي يجعل التطرف والإرهاب ظاهرة إسلامية، ويجعل العالم يحدق برعب في ظواهر المد الإسلامي.!؟ التديّن في العالم العربي: العرب أشد تديّناً وإيماناً، وربما مزايدةً، وكما رأينا سابقاً فإن دولا عربية هي مصر والمغرب وجيبوتي والإمارات تصدرت قائمة الدول الأعلى تدينا في العالم، وفي كل حال، بلغت نسبة التديّن في ‘العالم العربي نسبة عالية في حدود 77 %، فيما كان تقرير المؤشر العربي لقياس الرأي العام لسنة 2011م، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، قد ذكر أن نسبة التديّن في البلدان العربية بلغت(85 %). -التديّن والعنف.! حسب الدراسة فلا علاقة شرطية بين التديّن والتطرف والعنف، وإلا لتجاوز البوذيون المسلمين في عدد الجرائم ذات الدوافع الدينية “الإرهاب”.!لكن ما يجب أن يؤخذ في الاعتبار أن كل المناطق الساخنة عالميا تحتوي على نسب تديّن تتجاوز ال (80 %)، مثل باكستان (84 %)، وأفغانستان (83 %)والعراق(88 %). -الدين والتخلف: أيضا، لا يظهر الاستطلاع علاقة حتمية بين التخلف ومدى تديّن الشعوب، إذ أن نسبة التديّن في بعض الولايات الأمريكية تصل إلى 65 %، وهي نسبة مقاربة لنسبة التديّن في بعض الدول الإسلامية في الشرق الأوسط، والمجتمعات القبلية في جنوب إفريقيا. لكن أيضاً، يجب الانتباه بشدة إلى أن الأرقام تؤكد على تدني نسبة التديّن في الدول المتقدمة، وارتفاعها في الدول الأكثر تخلفاً، حيث بلغ متوسط نسبة التديّن في 27 دولة متقدمة شملها الاستطلاع، 38 %، وإن فاقت بعض الدول المتقدمة هذا المتوسط كسويسرا (42 %) وكندا (45 %). -الفقر والتدين: تؤكد الدراسة على علاقة ترابطية قوية بين الحالة الاجتماعية الاقتصادية للبلدان، ونسبة التديّن بين سكانها، فباستثناء الدول النفطية، تبدو العلاقة واضحة، بين ارتفاع نسبة التدين، وانخفاض مستوى المعيشة، ربما تأكيدا لنظرية (نوريس -إنكليهارت)، حول علاقة التديّن بالفقر.!لقد بينت الدراسة، أن من بين الدول ال11 الأعلى تدينا في العالم، هناك 8 دول فقيرة، كما أن من بين الدول ال 11 الأقل تدينا، 10 دول ذات مستوى معيشي مرتفع، مثل السويد والدنمارك، وهونج كونج واليابان.، ما يعني أن نسبة التديّن في البلدان التي يقل فيها متوسط دخل الفرد عن 2000 دولار ، هي 95 %، مقابل (47 %) في البلدان التي يرتفع فيها متوسط الفرد عن 25.000 دولار. -التديّن والتعليم: تؤكد الإحصائية على أن غير المتعلمين أكثر تدينا، بحيث أن 86 % من غير المتعلمين، هم متدينون، بينما تنخفض النسبة إلى 61 % بين من تلقوا التعليم الثانوي، والى 52 % بين من تلقوا التعليم الجامعي.! -التديّن والجنس: لا علاقة لنتائج هذه الدراسة ببعض الأفكار الخرافية الشائعة عن النساء، باعتبارهن أكثر أهل النار، وإن نحت نفس المنحى، حيث أشارت إلى أن نسبة المتدينات من النساء تصل إلى 57 % مقابل نسبة 60 % من المتدينين الرجال، وعلى صعيد الإلحاد تتجاوز النساء النسبة بفارق بسيط: 14 % في مقابل 12 % من الرجال.. -العمر والتدين: كانت دراسة سابقة لمؤسسة “بيرتلسمان” الألمانية، قد أظهرت أن “معظم الشباب في دول العالم المختلفة أصبحوا أكثر تدينا، من آبائهم وأجدادهم، وأوضحت الدراسة أن 85 % في المائة من الشباب، الذين شملتهم الدراسة، يلعب الدين دورا في حياتهم، وأن قرابة 44 % منهم متدينون بقوة وعمق. كما بينت أن 13 % فقط من الشباب في الدراسة لا يعيرون الرب أو الدين أي اهتمام”. هذا ما تؤكده إحصائية “جالوب” أيضاً، موضحة أن التديّن يبلغ ذروته بين فئتين عمريتين: الشباب(- 30) والشيوخ(+ 65)، وتبين الإحصائية أن 60 % من الأعمار دون 30 سنة هم متدينون، بينما تنخفض النسبة إلى 59 % لدى الأعمار (30 - 50 سنة)، والى 53 % لدى الأعمار (51 - 65)، وتعود لترتفع لدى الأعمار الأكبر (+ 65) إلى 66 %. تنويه أخير: هذه قراءة أولية، تحرت الموضوعية قدر الإمكان واعتمدت على مصادر موثوقة، ونعتذر عن ما يمكن أن تتضمنه من إخطاء أو تساهل في الجوانب الفنية والتنصيص، ومن التقصير في الاستقصاء والتحليل، تاركين ذلك لمن يهمه الأمر.. ... [email protected]