تكمن الثروة الحقيقية للمجتمع في ناسه (رجالاً ونساءً وأطفالاً)، وتحريرهم من الحرمان بجميع أشكاله، وتوسيع خياراتهم لابد أن يكون محور التنمية في الوطن.. حيث يسهم رأس المال البشري والاجتماعي بما لا يقل عن (64 %) من أداء النمو، بينما يسهم رأس المال المادي والبنى التحتية بما مقداره (16 %)، وتسهم الموارد الطبيعية بما مقداره (20 %). فالتنمية هي: تنمية الناس، ومن قبل الناس، ومن أجل الناس، من خلال تمكين الإنسان وبناء قدراته.. وتكمن التنمية الإنسانية ببساطة في عملية توسيع خيارات الناس في جميع المجالات، من خلال تمكينهم جميعاً من المشاركة بفاعلية في التأثير على العمليات التي تشكل حياتهم، ويتمثل هذا التمكين في تحريرهم من الحرمان بجميع أشكاله، وخصوصاً الحرمان من الحرية ومن المعرفة.. بذلك وحده يتمكن الإنسان من السيطرة على زمام مصيره، وصولاً إلى صناعة هذا المصير.. ولذلك يقال: إن خلق مستقبل للجميع، يسهم في بنائه الجميع، هو حتمية أخلاقية، ولابد أن يكون هدفاً استراتيجياً.. وهو ما يقضي بضرورة وجوب التحول من دولة الصالح العام إلى واقع يقوم على الحق في دولة صالحة للعيش، ذلك لأن واقعنا الراهن دون هذه الحالة إلى حد كبير.. وبسبب انخفاض مستوى الرفاه، يقع أكثر من (90 %) من السكان دون حد الرفاه، بمعنى احترام إنسانية الإنسان وحرياته الأساسية، في مقابل أقل من (10 %) من السكان يمكن تصنيفهم في فئة الرفاه الإنساني المتوسط، ويأخذ هذا المتوسط بالاعتبار مختلف أنماط الحريات الأساسية والمؤسسات التي تحميها.. فكيف يمكن إنجاز نهضة وتنمية والحال كذلك؟.. إن نظام الحُكم الذي يعزز ويصون رفاه الإنسان، ويقوم على توسيع قدرات الناس وخياراتهم وفرصهم وحرياتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، خصوصاً الأكثر فقراً وتهميشاً، بل إن مفهوم الحُكم الصالح يتطور إلى مفهوم (الأمن الإنساني) الأوسع منه، والذي يتمثل في التحرر من الخوف، والقضاء على ثقافة هذا الخوف، ومقاومة مصادرة حقوق الأفراد، واتخاذ هذه المقاومة بوسائلها وآلياتها، والتحرر أساساً في بناء قدرات الإنسان التي تشكل نواة أي إنتاج أو تقدم أو تنمية.. إذن، الإنسان أولاً وفي الأساس، والاعتراف بإنسانيته كمنطلق ووسائل ومآل.. وكل ما عدا ذلك جهد مهدور وأمل ضائع.. وهنا تكمن المشكلة، فالسلطة تتخذ من الديمقراطية مظاهرشكلية وشعارات مفرغة المضامين (حوارات واستفتاءات وانتخابات) كنوع من المزايدة التي توفر لها الغطاء، وترفع عنها تهمة الاستبداد، ولكنها لم تغير من واقع التخلف والقصور شيئاً.. وكما يشير الدكتور (مصطفي حجازي)، في كتابه (الإنسان المهدور)، تنحصر معاناة الناس في مثلث القمع المتضامن الأركان (الأمن، العصبيات، والأصوليات).. فوسائل القمع الأمني تنحرف في مسارها ووظائفها المفترضة في حماية الوطن من أعداء الخارج، تصرف النظر عنهم وتتوجه لملاحقة المواطن وقمعه في الداخل بهدف حماية الكراسي.. فلا استطاعت بذلك الحفاظ على الكراسي، ولا استطاعت قطعاً بأي حال تسيير المجتمع ونمائه.. وتحول دورها إلى حصار المواطن، وتقييد سلوكه، وقمقمة طاقاته الحية وترويضها وتدجينها، من خلال التربص بالسلوك ومطاردة الفكر، وينتهي حتماً بتدجين العقول وحظر التفكير الحر غير المقيد.. والركن الثاني للقمع والمتمم له يتمثل في دور العصبيات بمختلف ألوانها، (أسرية، قبلية، طائفية، مذهبية، إثنية، جهوية أو مناطقية، إلخ.)، تفرض حصاراً على أتباعها من خلال سيادة النظام البطريكي المتمثل بثنائية الطاعة والولاء مقابل الحماية والرعاية والنصيب من الغنيمة، وتنتشر هذه العصبيات في كل مفاصل مؤسسات المجتمع (رسمية وأهلية) وتحولها إلى مراكز نفوذ وموارد لجني الغنائم.. فهناك عصبيات سياسية وعسكرية وإدارية ومناطقية، لا مفر للمواطن اليمني من الوقوع في شباكها إذا أراد الحفاظ على مكانته أو الحصول على مورد رزقه أو حمايته، وينصاع للرضوخ والتبعية والانقياد الطفيلي المفروض لقاء الحماية والمغانم.. لكل ذلك فهي تناصب العداء بشدة لكل نزوع على الاستقلال الذاتي الراشد والتجرؤ على الفكر وبناء كيان اجتماعي فريد وأصيل.. وتضمن سلطانها على أتباعها من خلال تحويلهم إلى كائنات طفيلية، يستحيل معها أن تطمح إلى التطلع نحو المستقبل، وخوض مغامرة صناعته كمصير فريد في عالم القدرة والقوة الذي هو مجتمعنا.. هذا الانتشار الذي يتحول إلى حصار يجعل الأولوية في مختلف المؤسسات الرسمية والشعبية للولاء وليس للأداء.. والويل لمن يخرج عن هذا الولاء مهما كان أداؤه متميزاً.. ويتمثل الركن الثالث في الأصوليات المتطرفة بمختلف مذاهبها.. حيث يؤدي تزايد انتشارها إلى اتساع نطاق التحريم الذي تفرضه على الوجود بمختلف تجلياته، فتشن حربها ليس على الجسد وطاقاته الحيوية وحدهما، أو على السلوك وحركيته، بل يوجه أساساً على الفكر ومرونته، وصولاً إلى مطاردة النوايا، وبالتالي فإن مرجعية الإنسان معها لن تعود في ذاته، بل في نُظم التحريم المتفاقمة التي لا تترك خارجها سوى إشباع الحاجات الحيوية النباتية.. ورغم ما يبدو من صراعات بين أركان هذا المثلث (الأمن، العصبيات، والأصوليات) على المرجعية والنفوذ، إلا أنه متحالف ومتآزر في قمع وقهر الإنسان، إنه يعزز بعضه بعضاً في فعله وتأثيره، كتعزيز التجريم السياسي والتحريم الديني لبعضهما، الأول يطارد الإنسان من الخارج، والثاني يقيد الإنسان من الداخل.. وأمام هذا الحصار الثلاثي لا يفقد الإنسان إرادته فقط، بل كيان ذاته بكل ما فيه من حيوية ونزوع إلى الانطلاق والإمساك بزمام المصير هو الذي يُعاق ويُقهر، بل يُهدر.. إنه يدفع الإنسان إلى النكوص إلى مستوى حاجات السلامة والمعاش، والجري وراء توفيرها والحفاظ عليها، ولا يعود معها سيد ذاته، ولا هو سيد في وطنه.. حتى مواطنته ذاتها تتحول غالباً إلى نوع من المنة التي يمن بها عليه، مادام يستكين البقاء في القمقم.. نخلص إلى أن هناك، إذاً، ما هو دون انعدام الديمقراطية والحريات والاستبداد والقهر، وهو هدر إنسانية الإنسان وعدم الاعتراف المسبق بكيانه وقيمته وحصانته والحجر على العقول.. بالتالي لا يمكن الحديث معها عن حرية أو ديمقراطية أو مواطنة في حالة هدر الإنسان هذه.. فالهدر هنا يعني تحديداً هدر الإنسان، بمعنى التنكر لإنسانيته وعدم الاعتراف بقيمته وكيانه وحقوقه وخياراته، وأخذ المتسلطين حق التصرف بها ومصادرتها ومطاردتها والحرب عليها أو تهميشها والضيق بها.. وكذلك فالقهر هنا هو فقدان سيطرة الإنسان على مصيره وصناعته لهذا المصير.. ونختم بالقول: إن الهدر منتج للقهر.. والقهر يؤدي إلى عنف بالضرورة، والعنف بدوره يعيد إنتاج هذا الهدر للذات أو الآخرين أو للصالح العام، ويكشف عن الآثار الخطيرة لهدر إنسانية الإنسان.. تلك هي قصة الإنسان في اليمن.. جهد مهدور وأمل ضائع!. [email protected]