كانت الوحدة ولم تزل هي الهاجس الأجمل والأقوى عند كل اليمنيين ، وبالأخص عند سكان مناطق التماس أو ما كان يُعرف بالمناطق الحدودية سابقاً، لأن سكان تلك المناطق هم أكثر من عانى أوجاع التشطير، وهم أكثر من غيرهم يدركون ماذا تعني تلك المرحلة. حكايات كثيرة سمعتها من سكان قريتنا التي كانت تقع عند حدود الدولتين سابقاً، وكان أهلها شهوداً على تفاصيل تلك الأيام والسنين والعقود. كانت الوحدة بالنسبة إليهم ولغيرهم - بكل تأكيد - أجمل مفردة، وأجمل اُغنية تصدح بها الأصوات فتنتشر شمالاً وجنوباً بذات الأمل والشوق. تحولت تلك القرى إلى قلب الجغرافيا الجديدة بعد إعادة الوحدة، وبقيت الذكريات بكل تفاصيلها مع كثير من الأمل بأن لا يعود ماضي الجغرافيا والتاريخ إلى هناك. لم تزل أغاني الجمّال المتنقل عبر الحدود والمسافر يومياً عبر الوديان التي تربط بين الشمال والجنوب تمنح الطرقات الكثير من الأُنس وتزرع المزيد من الوعي بأهمية بقاء الوحدة. كان ذلك الجمّال الوحيد الذي لا يسأله أحد: من أين جئت وإلى أين تمضي؟ منذ سنين مات الرجل بعدما تحققت اُمنياته التي كان ينثرها أغنيات في الوديان. اليوم وبعد كل ما حدث، وبعد كل ما قيل وما قد يقال تبقى تلك الأغنيات خضراء على شفاه الناس مهما عكّرت الأخطاء أجواء الحياة العامة، فالوعي القائم على التأمل الجيد يهدي إلى الحقيقة وإلى الحلول العاقلة والمنطقية في كيفية تجاوز أخطاء الماضي واستبدالها بما يعيد القناعات إلى وضعها الطبيعي. ما يحدث اليوم في بلادنا وفي المنطقة العربية عموماً هو صراع رأسماليات عالمية لها حساباتها على المدى البعيد، ومقتضيات هذا الصراع في جانب منها يتمثل في إعادة رسم الخرائط ، وصياغة الثقافة التي تساعد على خلق الواقع الذي يخدم مصالح المتصارعين. هذا الصراع له أدواته التي تتحرك على الأرض، وهذا ما يجب أن يتنبه إليه الجميع صوناً للحاضر والمستقبل. يجب ألّا نتحدث عن ثورات ضد بعضنا البعض، هذا الأمر ليس واقعياً، إنه جزء من إشكالية الفهم لطبيعة الصراع وأهدافه. هناك سياسة تقوم على توظيف معاناة الناس كمدخل لتهيئة المناخات المطلوبة لإدارة الصراع.. إنها لعبة على أعلى المستويات، وبطريقة فائقة الدقة ربما لا يستطيع الكثير من سكان المنطقة إدراكها، ومع الأيام يظن هؤلاء الناس أن لهم قضية مع بعضهم ، وتترسخ لديهم فكرة الخلافات الداخلية كقضية عادلة تُراق لها الدماء وتشتعل من أجلها الحروب بشتى مسمياتها ، وسيأتي اليوم الذي تتضح فيه عبثية هذه الخلافات والحروب. العالم يتصارع على من يحكم المستقبل اقتصادياً، وكيف يتحكّمون بمصادر الطاقة كالنفط والغاز ، وكيف يسيطرون على خطوط الملاحة البحرية، وفي وسط هذا الصراع العالمي تدفع شعوب المنطقة الثمن الباهظ من استقرارها ومن وحدة أراضيها بفعل الأدوات المتحركة على الأرض. لن تقف دولة من الدول المتصارعة مع شعب من الشعوب العربية مجاناً ، ولا يمكن لها أن تضحي بمصالحها من أجل هذه الشعوب والدول. وكل ما قد يبدو من مواقف هي في الأساس ضمن متطلبات اللعبة، ولكي تتضح جوانب الصورة أكثر على الجميع أن يدركوا جيداً أن ظاهرة «داعش» هي صناعة تدخل في سياق لعبة الأمم التي تجري على أرض عربية وبدماء عربية وإسلامية، ومهما بدت لها من شظايا خارج الخارطة العربية، فهي مؤقتة وتبعات غير متحكم بها آنياً. لذلك لا شيء سوى الوعي لتجاوز المرحلة بأقل الخسائر التي لم يعُد بمقدور الشعوب العربية تفاديها بصورة كاملة. [email protected]