رغم كل الخلافات وما يحصل في الساحة من صراعات، بما فيها الصراعات المسلحة إلا أنها تبقى قابلة للحلول وممكنة إذا ما حكّمت الأطراف المتنازعة والمختلفة العقول، وقدمت التنازلات من أجل هذا الوطن أرضاً وإنساناً.. كل هذه الخلافات تندرج حتى اللحظة ضمن الخلافات السياسية، وهذا النوع من الخلافات يمكن تجاوزها في لحظة عقل تقود إلى الاتفاق على ما يرضي جميع الأطراف دون ضرر أو ضِرار. الحقيقة رغم كل مساوئ الخلافات السياسية وما ألحقته وما تُلحقه بالبلد من أضرار ومن آثار سلبية في مختلف الجوانب إلا أنها تبقى قيد السيطرة وقابلة للحلول بعكس تلك الخلافات ذات الطابع المذهبي التي هي أشد تعقيداً وأكثر عداوة ودموية، وتأخذ أبعاداً يصعب التعامل معها، وتسلك سبلاً أكثر وحشية ولزمن أطول بلا شك. ولهذا يجب أن تبقى الخلافات في نطاقها السياسي فقط ومن المهم أن يعمل الجميع من أجل ذلك لتفادي الصراع المرعب حقاً. جاءتني هذه الفكرة وأنا في الجامع لصلاة الجمعة عندما خرج الخطيب في كلامه وتناول قضية حساسة ذات بُعد ديني ويمكن تجييرها مذهبياً في مرحلة كهذه التي تشهد خلافات اختلطت في مسماها وفي تفاصيلها وحقيقتها.. انتفض الناس بعد صلاة الجمعة في الجامع وانقسموا بين مؤيد ومعارض لما قاله الخطيب الذي شطح في كلامه وخاض في قضية يبدو أنه لا يعلم عنها شيئاً ولا يُدرك عواقب كلامه.. تدخل العقلاء وأوقفوا تدهور الوضع وخروجه عن السيطرة وتفادى الجميع انطلاق شرارة الخلاف المذهبي في المسجد. كنت حاضراً المشهد ورأيت حجم المشكلة التي أوشكت على إشعال الفتنة، وبدأت ترتسم في مخيلتي صورٌ لما يمكن أن يحدث في هذا البلد في ما لو أصرّ المجانين على دفع الخلاف بعيداً عن السياسة وكراسي الحُكم والسلطة ليصل الأمر إلى صراع مذهبي سوف يحصد طرفي الصراع ولن يسلم منه من يقف في الوسط.. وأحسب أن هذا النوع من الصراعات والحروب لا تُبقي على أُنُاس محايدين لأنها تجذبهم بقوة العصبية والتعصب إلى مساحات الصراع. لن يسلم منها أحد حتى أولئك الذين يظنون أنهم بمنأى عنها أو أولئك الذين يرون في هذا النوع من الصراعات والحروب خدمة لهم ووسيلة لتصفية حسابات مع الآخرين ومع المرحلة ذاتها.. لن ينتصر أحدٌ مهما كانت قوته، ولن ينجو منها أحد مهما كان مسالماً ومحايداً.. لقد رأيت الفتنة تتطاير شرراً من عيون الناس عند نقطة أثارها خطيبٌ ليس لديه علم، وهنا يكمن الخوف عندما يعتلي المنبر من لا يعلم بأصول الدين، ومن لا يعلم ماهي رسالة المنبر والجمعة. اليوم أدرك الذين حضروا الصلاة في هذا الجامع نعمة التعايش الذي كان قائماً بين الناس في هذا البلد، وأدرك الجميع معنى أن ينقسم الناس في الجامع مذهبياً، وأظن بأن ما قاله ذلك الخطيب الفتنة لم يرضِ الكثيرين من المحسوبين على جماعته، وقد استمعت للكثير منهم ينتقدون ما قاله، وهنا يمكن الحديث عن وجود الوعي. دعونا نبقى في دوامة السياسة وحدها ونختلف فيها وحولها، فهي خلافات لاشك سوف تزول ولو طال النقاش فيها كثيراً، ودعونا نواجه صداع السياسة والكراسي والسلطة مهما طال أمدها ومهما كانت فاتورة الخلاف باهظة إلا أنها أقل وأهون بملايين المرات من صراع تقوده الأحقاد المذهبية وتجتر أسبابه منذ أكثر من ألف سنة. لا نريد لهذا الشعب أن يصفي حساباته مع خلافات التاريخ التي لا علاقة له بها، ولا يمكنه أن يصحح ما كان في سابق العصر والزمن من خلافات يجهلون ماهيتها وأسبابها، وأنا على يقين أن الكثيرين لا يعلمون عنها، ولم يسمعوا بها من قبل، وأكثر ما يقال عن ذلك الخلاف ليس صحيحاً ولم يكن موجوداً في الواقع بقدر ما هو أوهام زُرعت على مر القرون لا وجود لها، فليحذر الجميع من فتنة لا تُبقي ولا تذر. [email protected]