مثلت الثورات ظاهرة إنسانية اجتماعية، عرفتها البشرية منذ ما قبل التاريخ، وتعد ثورة (أوتوحيجال)، التي قام بها (السومريون) في حوالي منتصف الألف الخامس قبل الميلاد بجنوب (العراق القديم)، أول ثورة تحررية في العالم.. وتعبر الثورات عن أهم الظواهر الاجتماعية، لأنها ترتبط بجوانب حياة الإنسان كلها.. وتستمد الثورات أهميتها من اتساع مداها وعمق محتواها وشموليتها لأغلب طبقات وفئات المجتمع.. لذلك كانت الثورات التي أفضت إلى تغييرات سياسية واجتماعية واضحة هي الأوفر شهرة والأكثر تداولاً بين المؤرخين وغيرهم من المثقفين.. كالثورتين الفرنسية والروسية.. وهناك ثورات (خاصة) أي لم تضم كل عناصر المجتمع وطبقاته.. واقتصرت على بعض منها.. كثورة العبيد (سبارتاكوس) في روما، في القرن الأول قبل الميلاد.. وثورة الزنج، بالعراق، في القرن الثالث الهجري/ (9م).. وثورة الفلاحين في ألمانيا، في القرن السادس عشر. وقد كانت الثورة عبر العصور شغلاً للعديد من المفكرين في مجالات عدة، بينها التاريخ، ومنهم من تخصص فيها ك (حنة أرنت).. وأداروا حولها سجالاً، فمثلاً، كان (ماركس) يرى في الثورة ضرورة للتقدم الإنساني، ويراها (نيشته) سلوكاً يصدر عن سيكولوجية الغوغاء، التي تشبه في تكوينها العقلية البدائية.. ومن مفكرينا من قال بحق الثورة، ك(الإمام الغزالي).. ومنهم من جانبه.. وبالرغم من أنه ليس للثورة مفهوم محدد متفق عليه.. لكنها تعني - بشكل عام- تغييراً كبيراً مفاجئاً في أوضاع قائمة.. يسفر عن أوضاع جديدة، لم يسبق أن يكن هناك عهد بها.. كعملية يتم فيها الوصول إلى السلطة وتغيير البناء الاقتصادي-الاجتماعي القائم في المجتمع، وإقامة علاقات اجتماعية جديدة.. والحقيقة أن تعريف الثورة ذاته، هو أول مشكلة تصادفنا، وتبدو واضحة عندما تطلق جماعة ما على نفسها (ثورة).. أو عندما يستولي فرد على السلطة مدعياً أن ما قام به (ثورة).. وما يحدث من خلط واضح لدى الباحثين بين (الثورة) علمياً، وبين حركات أخرى كالانتفاضة، أو الهبة، أو التمرد، أو العصيان، وغير ذلك، عملياً.. ففي لغتنا، وردت كلمة (ثوَر) في القرآن الكريم بتشديد الواو، بمعنى: بحث عن علمه.. وفي (المختار الصحاح) تأتي كلمة (ثور) بتشديد الواو: ثور فلان الشر تثويراً: أي هيجه وأظهره.. وفي (المصباح المنير) أتت كلمة أثاروا الأرض، بمعنى عمروها بالفلاحة والزراعة.. ويعرفها (المعجم الوسيط) بأنها: «تغيير أساسي في الأوضاع السياسية والاجتماعية، يقوم به الشعب في دولة ما».. وتتفق المعاجم الغربية على تعريف الثورة بأنها: “تغير فجائي وأساسي وتام، وتغيير جوهري في النظام السياسي، يتلخص في الإطاحة بحكومة قائمة، وإقامة حكومة من المحكومين”.. ونظراً لكون الثورة ظاهرة إنسانية اجتماعية عرفتها البشرية منذ ما قبل التاريخ.. ونتج عنها تغيير في البناء السياسي والاجتماعي.. وبرزت على إثرها قوى اجتماعية وثورات أخرى.. وقد تتكرر إذا ما دعت الظروف إلى ذلك.. فهل يمكن اكتشاف القانون العلمي لها؟ يرتبط اكتشاف هذا القانون في الواقع بدراسة عينة من الثورات السياسية الاجتماعية الكبرى التي قامت في التاريخ الحديث، من أجل تحديد التراكمات الكمية المطلوبة، التي أدت إلى التغير الكيفي (النوعي).. وهذه الثورات هي: الثورة الفرنسية (1789). الثورة الروسية (1917). الثورة الصينية (1949). الثورة المصرية (1952). ثورات أمريكا اللاتينية (الجنوبية): بوليفيا (1952).. كوستاريكا (1953).. كوبا (1959).. وجواتيمالا (1964). وبالتالي فمن خلال متابعة حركة هذه الثورات، والبحث عن علاقات الأشياء والجزئيات بعضها ببعض وترابطها، من حيث (الأسباب والتنظيم والحدوث والنتائج) يمكن تحديد التراكمات الكمية المطلوب توفرها لبلورة الثورة، والتي تكمن في الشروط الخمسة الآتية: 1 - وجود تناقض اجتماعي- سياسي بين السلطة القائمة وبين المحكومين.. كأن تكون هناك مشكلة اجتماعية حادة بسبب عدم التوازن بين الأجور والأسعار.. أو بسبب احتكار صفوة اجتماعية معينة للحكم وتنحية فئات اجتماعية أخرى.. ومن ثم نشوب الصراع بمختلف أشكاله وحسب مقتضى الحال. 2 - عجز السلطة الحاكمة عن حل التناقض القائم.. وسعيها للاحتفاظ بزمام الأمور في يدها عن طريق إرضاء مختلف الأطراف.. ونقل التناقض إلى القوى المتنافسة معها.. فتحاول استقطاب قوة ضد قوة.. أو تصفية أخرى.. أو اختراق قوة ثالثة، وهكذا.. كما تعمد إلى تقديم تنازلات هنا وهناك، فلا تنجح.. بل تزداد الأمور سوءاً.. لأن الحلول الوسطى لا تقدم أي حلول على الإطلاق حسب (جون ستيورات مل). 3 - وجود جماعة سياسية سرية أو علنية (حزب/ جبهة) تسعى لحل التناقض القائم لصالحها، وفق ما تعبر عنه من مصالح القوى المشاركة. 4 - تطلع جموع الناس إلى التغيير وتنتظره يأساً من الوضع القائم.. أو ما يعبر عنه ب(شرط توفر حالة الثورة في المجتمع). 5 - اختيار اللحظة المناسبة، أو الظرف المواتي المحسوب بدقة للاستيلاء على السلطة.. وهذا يعني أن القيام بالعمل قبل اللحظة المناسبة يؤدي إلى إجهاض الثورة.. والتأخر عن هذه اللحظة يفوت فرصة نجاحها. فإذا توفرت هذه الشروط الكمية في مجتمع حالة الثورة.. تقع الثورة حتماً ولابد.. ونظراً لأن الثورة تقاس بالأهداف المحققة، فإذا افتقدت لأحد شروطها، فهذا يعني أن تراكمات الحالة لم تكتمل بعد.. أما إذا فشل الثوار في الاستيلاء على السلطة، وتم اعتقالهم وتصفيتهم، فلا يجوز وصف ما قاموا به ب(الثورة).. وهنا يمكن لنا القول إن هذا هو القانون العلمي المستخلص للثورة، والذي يجب أن يستخدمه الباحثون في دراسة الثورات.. نخلص إلى أن الثورة هي حلم للجميع.. وحقيقة ينتظرونها.. ولكن على الرغم من الأهداف والغايات النبيلة التي تقف وراء انفجار الثورة.. إلا أنها لا تخلو من عنصر شرير ومدمر.. فإذا لم يتم إحباطه سرعان ما تتم خيانة هذه المبادئ السامية.. وبالتالي تتحول الثورة إلى عبودية.. ففي حين يرغب الإنسان في أن يحرر نفسه كلية من الاستبداد والديكتاتورية.. ومن كل الأوثان والمقدسات الزائفة الكاذبة بالثورة.. لكنه سرعان ما يخلق أوثاناً زائفة ومقدسات كاذبة جديدة.. بل إن الثورة نفسها قد تتشخصن وتكتسب وجوداً حياً مستقلاً يقف في مواجهة مصير الشعب.. فيحدث أن تختفي من الذاكرة كلية الثورة نفسها.. وتنكرها لكل من أخلص لها وتطلع لها وساعد في خلقها وبعثها.. فتبدأ في التخلص من هؤلاء الذين كان لهم الفضل في وجودها واحداً بعد آخر.. وتبدأ مشكلة كتابة تاريخها بعد اختفاء ممثليها وقادتها الرئيسيين من المسرح السياسي.. نختم بالتأكيد إنه مع كل الشرور التي ترافق الثورة، إلا أنها تعد عملية حتمية.. وتعد كذلك لحظة مهمة في مصير كل شعب.. لكنها نادراً ما تنجح في خلق الإنسان الجديد.. والثورة الحقيقية والأصلية.. ثورة الروح والضمير.. هي التي تؤدي إلى تغيير حقيقي في بناء الوعي وتغيير في الموقف الأساسي تجاه العالم الموضوعي.. وثورة كهذه، هي وحدها الكفيلة بتحقيق الحرية. [email protected]