- مثقف الكتابة الكلاسيكية يفقد امتياز الاجتماعي - كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة "النفري"لم يعش النفري زماناً كزماننا هذا ولا أحسب أن اهتمامه ورؤيته الفكرية تعدت المشكل الثقافى إلى المشكل الاجتماعي والسياسي العام الذى تتحرك في إطاره العملية الثقافية وتنمو. لكن دقة التشخيص الفكري لظاهرة "لغوية" محددة أفرز منطقاً عاماً له قيمة القاعدة القانونية أو المبدأ الفلسفى الذي له قدرة السريان على غير جانب من جوانب الحياة والفكر الانسانى مع اختلاف مراحله وعصوره، كالقول الأثير: ما زاد عن حدّه انقلب إلى ضدّه. ومع ذلك تستمر مقولة النفري فى استيلاد تأويلات متتالية تمنحها قدرة اختراق الزمن. لقد شهدت التطلعات الانسانية والخطاب الثقافي العالمي تغيراً حاداً فى العشرين سنة الأخيرة "ثمانينيات القرن الماضي" فى ظل الانعكاسات الاجتماعية والاقتصادية لتغير قواعد اللعبة السياسية الدولية وتجليات النظام العالمي الجديد الذي أنجب العولمة ومشتقاتها التكنولوجية والالكترونية التي غزت العالم بسرعة خارقة كالأنترنت وأجهزة الهواتف الخلوية. لقد كان من نتائج ذلك تقليل الفجوة بين الثقافي والعام، ومنح الكثير من الأفكار والظواهر العالمية فهماً عاماً على مستوى الانسان البسيط، كجزء من تطبيقات الثقافة الشعبية [Popculture]. بتعبير آخر، أن الثقافة شهدت توسعاً أفقياً، وهذا التوسع جاء على حساب التطور النوعي والعمق الثقافي الذي ينتج التمايز ويفرز الابداع الذي يقود النقلات الفكرية والاجتماعية. ومن الممكن القول أن مثقفي ما قبل الثمانينيات هم أكثر تخلفاً اليوم من جمهور ما بعد التسعينيات في تداول الانترنت والهواتف الخلوية وفهم تقنياتها الاستعمالية. المثقف "الكلاسيكي" بهذا المعيار يحتاج لمساعدة لارسال مادة للنشر أو استخدام النظام التقني المناسب فى معالجة النص أو الصورة أو التعامل مع رسالة صوتية أو مقروءة sms عبر الهاتف الخلوي. لقد فقد المثقف "الكتابي" الكلاسيكي الذي تثقف على النص الورقي الكتابي والصحافي وتعامل به في كتاباته ومؤلفاته قبل انتشار الكمبيوتر والانترنت، امتيازه الثقافي والاجتماعي. لأن دخول الانترنت لم يقتصر على تغيير وتسهيل تقنيات الكتابة والتأليف وانما تعدى ذلك إلى النشر والاتصال، وبينما كان على المؤلف تبييض النص بخط واضح أو طباعته بالأجهزة التقليدية وارساله بالبريد أو الفاكس بعد تأمين جهة النشر، تتعدد جهات النشر فى القرية الألكترونية ولا يلزمه غير ضغطة زر ودون تكاليف أو رقابة تذكر. ويعاني عدد غير قليل من المؤلفين في انجاز كتاباتهم وتسويقها جراء غزو التقنيات والتعاملات الجديدة، ممن لا يجدون معونة داخل العائلة أو حلقة العمل والاصدقاء. كما انعكس ذلك فى اختفاء كثير من الاسماء ومساهماتها، إزاء ظهور مئات بل آلاف الأسماء الجديدة فى سوق النشر الالكتروني غير المتداولة سابقاً. ولكن مع ذلك يظل من المؤسف ان تتخذ دور النشر والمؤسسات الصحافية جانب الاستسهال فى مقاطعة المؤلفين غير الالكترونيين، رغم أنهم كانوا حتى أيام قريبة يتعاملون بالفاكس والورقة، بعد أن عمد بعضها للاستغناء عن الكادر الطباعي اليدوي واستبداله بأجهزة كمبيوتر موصولة بالشبكة الالكترونية. بعبارة أوضح أننا أمام وضع تعريف وتحديد مفهوم جديد للمثقف والثقافة والثقافي في ضوء الأسس الفاعلة والمعطيات الجديدة في صناعة وتداول النص. الأسس الجديدة هذه هي "الكمبيوتر - الاتصالات الالكترونية -هاتف خلوي، أنترنت، تلفزة فضائية- فن العلاقات العامة". وهذه الأخيرة تمثل الجانب النظري الفكري الذي قامت عليه ثورة الاتصالات الأكترونية ، وترى أن القيمة الفعلية لكل عمل أو فكرة يعتمد مدى نجاح تحقيق الاتصال والتواصل بين المنتج والمتلقي "المستهلك". ويرفض دعاة هذا الفكر اطلاق صفة العلم على هذا الاختصاص الدراسي أو الثقافي ويفضلون تسميته فن العلاقات العامة الذي جرى تكريسه منذ السبعينات في الجامعات، وكان حتى التسعينيات يدرس في ثلاثة بلدان "الولايات المتحدة - مصر - الصين". فالمعايير الجديدة لتعريف الثقافة وتحديد المثقف العولمي تختلف اختلافاً جذرياً عن المعايير والتعريفات السابقة التي لم تعد عملية أو قابلة للحياة فى القرن الحادي والعشرين دون استيعاب وتعاطي المعايير الالكترونية والأفكار الجديدة. التسهيلات غير المحدودة فى واقع صناعة النص ونشره وتسويقه من الأمور التي لا يمكن نكران أهميتها وفضائلها واعتباراتها كقيمة تطورية معيارية، لكن، على الجانب المقابل، لا يمكن التغاضي، آجلاً أو عاجلاً، عن سلبياتها والمخاطر المترتبة عليها على المدى القريب أو البعيد، وطبيعة وصورة المجتمع العالمي الذي ستسفر عنه أو تنتجه بعد عشرين أو خمسين سنة إذا كتب لها التواصل. من الأثير هنا أن نطرح سؤالاً واحداً لا نستسهل أو نستعجل الإجابة عنه.. وهو: لأجل أي شيء جرى وضع ذلك كله للاستهلاك العام والشخصي دون تكاليف أو شروط مكلفة؟.. أليس من الحصافة، التساؤل عن سرّ وأهمية انتشار أجهزة الموبايل وتلفزة الفضاء والأنترنت فى بلدان تعاني من كوارث التخلف والمجاعة والمرض. لماذا فشلت خطط التنمية الاقتصادية والبشرية فى العالم الثالث طيلة أكثر من نصف قرن، ونجحت ثورة الاتصالات فى بضع سنوات؟ وهي في تسارع واندفاع وانتشار مستمر. ان النزعة الاستهلاكية بحد ذاتها، فى ضوء علم نفس المستهلك، مرض نفسي، وآفة اجتماعية لها أبعاد ومضاعفات أكثر من أن تحصى، سيما عندما تستجيب لنوازع نفسية وروحية معينة، وتحقق جانباً من الحاجات الأساسية التى بقيت بعيدة عن أيدى بلايين البشر. ويعتقد كثير من شباب البلاد غير الأوربية أنهم يضاهون أساليب الحياة الغربية ويتكاملون معها، رغم افتقاد بعض بلدانهم البنى التحتية الارتكازية المكتملة أو المؤهلة لتلبية الحاجات البشرية. إزاء أطر ثقافة جديدة، ومعايير مختلفة لتحديد الثقافي وتعريف المثقف وما يتوزع عنه من فكر وأدب وفن وذائقة، ثمة تراجع فى القيمة الثقافية للنص، يتمثل فى التهافت الاجتماعي والميوعة والتطرف. وإزاء تراجع دور الرقيب السياسي "التقليدي"، ظهر الرأى العام كسلطة رقابية أو ذوقية لها من المغريات والامكانات في فرض طابعها وبصماتها على تفاصيل العملية الابداعية، سواء فى مرحلة التأليف أو النشر والتوزيع والتسويق. ومن الخطأ التصور عدم وجود قوة موجهة لاتجاهات الرأى العام العالمي الذى تخلقه وسائل الاتصال الحديثة. ان مقارنة بسيطة بين ما يجرى اليوم وبين عالم ما قبل الثمانينات، بين المواقف الفكرية والسياسية للأدباء والمثقفين يومذاك وهذا اليوم، بين دور الأديب فى المجتمع بين الحالين، سوف تسمح بالكشف عن القيمة الحقيقية لثورة الاتصالات الحديثة وأبعادها الاجتماعية فى العصور الحديثة. ان الاقتصاد هو الطابع العام للحياة الانسانية، والمحرك للحضارة الحديثة. وليست النزعة الاستهلاكية هي حجر الثقل فى التطور الاقتصادي، وانما القيم الاقتصادية. وهنا لا تُفعّل مقولة النفري الواسعة لوحدها، وانما حكمة الاقتصاد: العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة. وهي احدى آفات الأننرنت والتلفزة الفضائية، وحياتنا المعاصرة.